وتجد هذه النظرة السوداوية مبررات عدة لها من تراجع الخدمات العمومية وخاصة في الصحة والتعليم والنقل والتدهور (الحقيقي أو المتخيل) للقدرة الشرائية وتواصل ارتفاع معدلات البطالة وتواضع أداء الاقتصاد وضعف كفاءة الأداء الحكومي وتناحر النخب الحزبية والفكرية ..كل هذا يدفع المواطن (ة) إلى الاعتقاد بأنه قد ترك(ت) فريدا(ة) أمام هذه الغيوم المدلهمة وأن الحل الفردي – متى توفرت إمكانياته – هو السبيل الوحيد للخروج من هذا «الجحيم» الجماعي..
ولكن كلما تحيط أزمة بالبلاد نكتشف قدرتنا الجماعية على الصمود والتجاوز، ولقد خبرنا هذه الخصال خاصة في حربنا على الإرهاب : وحدة وتضامن وأنفة وإصرار على الانتصار وافتخار بهذا البلد وبرموزه من علم وجيش وأمن. ووأمنم وأمن الإشكال الوحيد في بلادنا أننا لم نتمكن إلى حد الآن من تعميم هذه الروح المقاومة الايجابية على بقية المجالات وخاصة في التنمية والنهوض باقتصاد البلاد وتوفير فرص جديدة لشبابها..
والأكيد أن بلادنا ستخطو خطوات عملاقة في فترة قصيرة لو قاومنا الفقر والجهل والمرض والتفاوت الجهوي والظلم كما نقاوم الإرهاب، ولكن ضبابية العدو في هذه المعارك الأساسية وعدم تحدده الواضح والتنازع حول طريقة مقاومته وآفاقها هو الذي يحد من جهدنا الجماعي ولكن الشروط المعنوية الروحية للنهوض متوفرة وما على النخب السياسية والجمعياتية والاقتصادية والفكرية إلا توجيهها التوجيه الحسن ..
ولكن عندما نتفحص جملة تجاربنا خلال هذه السنوات الأخيرة نكتشف خصلة ثانية شديدة الأهمية وهي رغبتنا العميقة في المحافظة على أواصر عيشنا المشترك حتى عندما نصل إلى نقطة اللاعودة .. لقد خبرنا ذلك في صائفة 2013 عندما كانت البلاد قاب قوسين أو أدنى من حرب أهلية ، وخبرنا ذلك أيضا في بعض المحطات كإصدار قوانين هامة لمكافحة الفساد أو تجريم العنف المسلط على المرأة وغيرها وأساسا في الموافقة شبه الاجماعية على دستور البلاد وهو دستور يحق لنا المفاخرة به رغم بعض الثغرات التي تجلت في الطريق.
لقد تجنبت نخبنا دوما الحلول القصووية والتناحر المطلق الذي لا هدف من ورائه سوى التدمير المتبادل فأنجزنا أربعة انتخابات لم يطعن في شرعيتها أحد.
لا يشك أحد في كثرة مشاكلنا وعمقها فمؤسساتنا لم تكتمل بعد ومن أهمها المحكمة الدستورية والفساد مازال مستشريا في حياتنا العامة وفي ديمقراطيتنا هشاشات ونقائص هامة ولكن رغم كل ذلك بلادنا تتقدم وإن بخطى وئيدة وديمقراطيتنا تترسخ رغم التعثرات واقتصادنا لم يفقد مناعته وقدرته على المقاومة.
لاشك ان أمامنا إصلاحات هيكلية جوهرية لابد من القيام بها لضمان مستقبل أفضل لأبنائنا وجهاتنا.. إصلاح المنظومة التربوية والتكوينية أساسا لنجعل من التفوق والتميز أفقا متاحا للأغلبية الساحقة من بناتنا وأبنائنا ومعالجة مختلفة للتفاوت الجهوي تجعل من المناطق الأقل حظا ونموا مصدرا لخلق خيرات جديدة وللتفوق المدرسي والعلمي والصناعي وألا يكون خلق الثروة حكرا على جهات او عائلات بعينها .. ورغم تأخرنا الكبير في هذه الملفات وفي غيرها إلا أننا نعتقد بأننا بصدد إنضاج شروط الانجاز بدءا بالوعي بهذه الرهانات ومرورا ببلورة الأفكار والتصورات حولها ..
عندما نقول أن تونس «لاباس» نحن لا نعني ضرورة الواقع المعيشي اليومي لمواطنينا بل في وجود هذه الروح المعنوية التي تتجلى جزئيا في بعض الملفات وتظهر عند النخب عندما تتفاقم الأزمات، ونقصد بها أولا وقبل كل شيء هذه الديمقراطية الناشئة رغم كل تعثراتها وأعدائها في الداخل والخارج وأنها أظهرت قدرة على المقاومة والصمود وكذلك على ابتكار الحلول المناسبة رغم صعوبات الظرف.
يخطئ من يعتقد بان كل نخبنا السياسية فاشلة وفاسدة أو أن الوطنية حكر على البعض دون البعض الآخر ..
ما حصل يوم أول أمس في البلاد من الهجمتين الإرهابيتين المتزامنتين ومن خوف التونسيين على صحة رئيس الجمهورية وتداعياتها الدستورية والسياسية على مستقبل البلاد يؤكد مرة أخرى أن نوازع الحياة والأمل عندنا اكبر بكثير من معاول الهدم ونوازع الموت وان مؤسساتنا الديمقراطية رغم نقائصها قادرة على ابتكار الأجوبة الملائمة للظروف الطارئة..
تمنياتنا مجددا لرئيس الدولة بالشفاء العاجل ونقول لأنفسنا جميعا لا خوف على بلادنا .
تونس «لاباس» ولكنها تحتاج منا فقط مزيدا من البذل والعطاء دون انتظار جزاء سريع .