قررتا تعقيد المسار في اللحظات الأخيرة منه بتعلة حمايته من اللوبيات والمافيات والمتحيلين على القانون ..
لقد أطنبنا في الحديث حول التعديلات التي قدمتها الحكومة لفصول من القانون الانتخابي وتعرضنا للشكوك الكبيرة حول نوايا أصحابها وحول دستورية التمشي واحترامه لروح الانتقال الديمقراطي دون إنكار للمخاطر التي تمثلها المغامرات الشخصية الشعبوية وشبكاتها الزبونية الخيروية ،ولكن جزءا من هذا النقاش أصبح وراءنا بعد مصادقة مجلس نواب الشعب بـ128 صوتا على هذه التعديلات..
اليوم انتقلنا من زمن النقاش العام داخل مجلس نواب الشعب وخارجه إلى زمن آخر ، أو بالأحرى إلى زمنين آخرين: الأول قانوني والثاني انتخابي مع وجود خيط رابط بينهما وهو الزمن السياسي ..
اليوم نحن أمام لاعبين أساسيين جدد يتحكمون بمقادير في هذه الأزمنة المتشابكة : المعارضة البرلمانية التي ستطعن في هذه التعديلات والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين والهيئة العليا المستقلة للانتخابات ثم الماسك بالأزمنة الثلاثة ، سلطان الزمن،الباجي قائد السبسي..
لا ينبغي أن ننسى أننا اليوم أمام موعدين حاسمين : الأول يوم 7 جويلية وهو آخر يوم متاح لرئيس الدولة لدعوة الناخبين هذا لو أردنا أن تجرى الانتخابات التشريعية المقبلة في موعدها المحدد أي 6 أكتوبر القادم ، والثاني هو يوم 22 جويلية حيث تفتح الهيئة العليا المستقلة للانتخابات باب الترشح للتشريعية.
وبين هذين الموعدين موعد ثالث غير محدد الميقات وهو صدور التعديلات (كلها أو بعضها لا نعلم ) في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية ..
هنا لدينا أكثر من فرضية واحتمال ، وهنا أيضا يتدخل هؤلاء اللاعبون الجدد،كل بضغوطه الخاصة وبقدرته النسبية على التحكم في وتيرة الزمن..
• الأمير الأول للزمن هو نواب المعارضة الذين سيطعنون في هذه التنقيحات، وهذا «الأمير» له ورقتان أساسيتان : مضمون الطعن ومدى جديته وشموليته بداية وزمن تقديم الطعن نهاية .
فبقدر ما يُحبك الطعن وبقدر قوة حججه القانونية والدستورية تكون حظوظه في نيل موافقة – ولو نسبية – للأعضاء الستة للهيئة الوقتية كما يملك هذا الأمير ورقة ثانية وهي زمن تقديم الطعن إذ نعلم أن النصاب متوفر منذ اليوم الأول ولكن هل سيستغل هؤلاء الطاعنون كامل الفسحة الزمنية المتاحة لهم (أسبوع) أم لا ؟ والواضح أنهم لو قدموا طعونهم في آخر يوم للآجال القانونية فسيزيدون في الضغط على كامل العملية إذ لا يخفى على احد أن مرور كل يوم قد يضعف من اعتماد هذه التنقيحات كقانون منظم لانتخابات الخريف القادم ..
• أمير الزمن الثاني هو الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وأعضاؤها الستة الذين سينظرون في شكل ومضمون الطعن المرفوع إليهم ، وهنا كل الفرضيات ممكنة : رفض الطعون شكلا وبالتالي عدم النظر في الأصل وهذا يعني إقرارا ضمنيا بعدم عدم الدستورية والذي لا يتماهى تماما مع الإقرار بالدستورية ولكنه يرفض الطعون وبالتالي يمرر التنقيحات لرئيس الدولة من اجل ختمها ..
الفرضية الثانية ، وهي الأقرب ، تتمثل في قبول الطعون شكلا ولكن بعد ذلك للهيئة أن ترفضها أصلا ونكون هنا أمام إقرار صريح بدستورية التعديلات .
أما السيناريو كلّ الذي يخيف الأغلبية الحاكمة فهو القبول شكلا واصلا والحكم بعدم دستورية التعديلات أو بعضها ..
هذا من حيث جوهر عمل الهيئة ويبقى التوقيت عنصرا أساسيا كذلك إذ بإمكانها أن تبت في أيام قليلة ، كما بإمكانها أن تبت بعد 17 يوما ..
حسابيا لن يتأخر قرار الهيئة بعد 12 جويلية القادم.ولكن لو تجاوز يوم 7 جويلية سنكون أمام وضعية غريبة إلى حد كبير إذ قد يدعو رئيس الجمهورية الناخبين دون أن يعلم ماهي مالآت التعديلات المقترحة ..
وهنا قد تتداخل الأزمنة القضائية والدستورية والسياسية ، وهذا ما يفيد بأن تأخير رئيس الدولة لموعد دعوة الناخبين إلى آخر اجل لا يغير شيئا من المعادلة بل قد يفقده بعض الأوراق المهمة .
رأينا إذن أن الزمن الرئاسي سيتداخل حتما مع الزمن القضائي الدستوري وهذا ما سيزيد في الضغوطات على كل الأطراف ..
على كل حال ستكون لدينا فكرة أولية عن استراتيجيات القصر عندما نعلم توقيت تقديم الطعون .
• ويبقى رئيس الدولة سلطان الزمن هنا ، إذ بإمكانه التسريع في الوتيرة أو تخفيض سرعتها بدءا بتقديم طعن النواب مرورا باختياره لتوقيت دعوة الناخبين ولكن الاساسي – في اعتقادنا – سيكون تحت الطاولة لا فوقها ، إذ بإمكان رئيس الدولة أن يقبر هذه التعديلات، لو أراد إما بنقضها حتى في صورة مرورها على الهيئة الوقتية وعندها سيدعى المجلس من جديد للمصادقة على نفس النص بأغلبية ثلاثة أخماس الأعضاء أي 131 عضوا ، وعندما نعلم أن حالة الحشد القصوى لم تسمح إلا بـ128 صوتا ندرك صعوبة العملية ، إن لم نقل استحالتها ، في حالة نقض رئيس الجمهورية ..
كما يمكن لرئيس الدولة اللجوء إلى الاستفتاء ما دامت بعض التعديلات تتعلق بباب الحقوق والحريات وهذا يعني القبر النهائي لهذه التعديلات على الاقل بالنسبة لانتخابات 2019.
مع العلم ان رئيس الدولة لا مصلحة شخصية له في هذه التعديلات ، فلا هو مترشح لولاية ثانية ولا حزبه ، أي من بقي مع نجله ، قادر على المنافسة، وهذا ما سيسمح له بهامش كبير من المناورة مع القصبة صاحبة المصلحة الأولى ، ولكن ماذا بإمكان يوسف الشاهد وحزبه الوليد أن يقدماه للثعلب العجوز ؟ لا شيء أو يكاد .
فالمشروع السياسي للشاهد حتى في صورة إقصاء الشبكات الزبونية الخيروية لن يكون إلا حزبا ثانويا لا قدرة له على الحكم ولا حتى على قيادة ائتلاف حاكم في حين أن لهذه الشبكات الزبونية وخاصة لنبيل القروي مساحة اكبر وأوسع دون نسيان العلاقات الشخصية الوطيدة التي تربط بين الرجلين ..
أيهما أكثر إفادة للباجي قائد السبسي : يوسف الشاهد أم نبيل القروي وأيهما أكثر قدرة عن حماية عائلة الرئيس بعد انقضاء عهدته الانتخابية ؟ لنراهن بأن الإجابة على هذا السؤال هي التي ستحدد الموقف النهائي لصاحب قرطاج ، وهو لن يقنع بالوعود بل يريد أيضا أن يكون للطرف المقابل القدرة على التنفيذ..
ثم لنكن متأكدين بان الباجي قائد السبسي سيلتذ بكل هذه الساعات والأيام الثقيلة على صاحب القصبة وأنصاره في انتظار قرار الهيئة الوقتية أولا وقرار رئيس الجمهورية ثانيا ..
نعلم جميعا أن الباجي قائد السبسي لا يبدع سياسيا إلا في هذه الوضعيات المعقدة والمعادلات ذوات المجاهيل الكثيرة وسوف يضطر خصومه للتراجع ولبذل العطايا والوعود عساهم يظفرون برحمة منه ..
يوم 22 جويلية على مرمى حجر وهيئة الانتخابات ستكون على صفيح ساخن فإما الاستعداد للشروط الجديدة لو صدرت بالرائد الرسمي قبل فتح باب الترشحات أو العمل بالمقررات القديمة ..
سلطان الزمن يملك اليوم كل الأوراق وسيكون قبلة الجميع خلال هذه الأسابيع الحاسمة ..
ولكن هل حسم الثعلب العجوز أمره ؟
ذلك هو السؤال ..