تنقيحات للقانون الانتخابي ثلاثة أشهر ونصف الشهر من موعد التونسيين مع صناديق الاقتراع ..
يمكن أن يعتقد بعضهم أن تجند أحزاب الحكم يوم أول أمس يمثل نقطة قوة ويرسل برسالتين إلى الرأي العام تتمثل الأولى في الرغبة الواضحة في حماية المسار الديمقراطي من المغامرات الفردية الشعبوية والثانية في أن أحزاب الحكم لم تفقد القها وقوتها وأنها مازالت هنا اليوم وستكون في الموعد كذلك غدا عندما تفصح الصناديق عما في بطونها..
قد تقنع هذه النظرة التفاؤلية أصحابها ، وقد يقتنع بها أيضا جزء من الرأي العام ولكن هنالك رسالة أخرى سترسل إلى الداخل والخارج مفادها أن هنالك موجة عارمة من الارتباك وأن أوراق أحزاب الحكم قد تداعت إلى السقوط وأنها تريد تحصين نفسها لا تحصين البلاد وضمان موقع لها لا بفعل قدرتها على الإقناع بل بحكم القانون الذي تعمد إلى سطوته للحد من حضور منافسيها الأساسيين .
لا نشك لحظة واحدة في وجود نوايا صادقة عند العديد من نواب أحزاب الحكم الذين يخشون على مستقبل البلاد من صعود المغامرات الزبونية الشعبوية ولا كذلك في النوايا السيئة لبعض المعترضين على هذه التعديلات والذي ينوون ركوب الموجة الجديدة ويتدثرون بثياب الديمقراطية للتغطية على صفقات مشبوهة .
ولكن الأساسي لا يكمن في صدق نوايا هؤلاء ولا في الحسابات الوضعية لأولئك..
الأساسي هو في سلامة البناء الديمقراطي وصدقية ونزاهة العملية السياسية بغض النظر عن تعثرات اليمين والشمال ..الأساسي هو في الانتقال من رغبات وطموحات الأشخاص -مهما كانت مشروعة - إلى صلابة وعلوية المؤسسات ..
وهذا يستوجب مسألة أساسية يبدو أن أحزاب الحكم قد تخلت عنها وهي الأهمية القصوى للسياسة كأفكار واختيارات وبرامج ورؤى على الحسابات السياسوية كتكتيكات ظرفية وتحالفات والإطاحة بالبعض والتعويل على «الشيطان» ما دام في خدمتنا ثم تقديمه كقربان لعذرية مفقودة..
يوم 18 جوان بغض النظر عن التسويق والتبرير والتنظير ، خرجت السياسة منهزمة وانتصر التكتيك السياسوي والحسابات الضيقة الأفق .
يوم أول أمس اعتقدت «الأدمغة المفكرة» في أحزاب الحكم أنها بإقصائها للكائنات المستحدثة على هامش السياسة (والتي هي الآن بصدد الإحراز على نسب مهمة من الثقة الافتراضية للناخبين) انه بإمكانها اقتسام هذه «الغنيمة» إذ لن يكون أمام الناخب يومي 6 أكتوبر و17 نوفمبر سوى التصويت إما لهذه الأحزاب أو لمعارضيها التقليديين فقط لا غير وهي تكون بذلك كمن يعتقد بأن غياب البعرة يعني حتما اختفاء البعير ..
ما لم تدركه هذه الأحزاب هو أن نوايا التصويت المعلنة نحو هذه المغامرات الشعبوية والزبونية الجديدة سواء أكانت حداثوية المظهر أو خيروية المبنى إنما تعني أولا وقبل كل شيء إخفاقا مزدوجا للحكم وللمعارضة قبل كل شيء إذ لا يمكن أن يعتقد عاقل واحد بقدرة جمعيتين لوحدهما وأيا كانت السيولة المالية والإعلامية التي تتوفر لديهما على قلب كل المعطيات وتغيير المشهد السياسي رأسا على عقب .. فإن حصل هذا – وهذا لم يحصل بعد – فإنما يدل على مسائل أعمق لا يمكن لقانون مهما خيط على القياس أن يعالجها أو حتى أن يحد منها ..
قادة أحزاب الحكم اليوم يبدون كالسحرة المبتدئين الذين يملكون قوة خارقة (القانون في وضعية الحال ) ولكنهم لا يعرفون كيف يتصرفون فيها ولا يدركون –وهذا هو الأخطر– الانعكاسات التي قد تنجر عن استعمال هذه القوة الخارقة في غير مواضعها .
الخسارة المعنوية الكبرى لأحزاب الحكم أنها قررت عدم خوض معركة سياسية وأخلاقية جوهرية ضد هذه المغامرات الشخصية الشعبوية لأنها تخشاها وغير متأكدة من قدرتها على هزمها فوق الملعب فاختارت حل «الهزم الجزائي» بواسطة قانون على المقاس ذي شبهات لا دستورية أقوى من أن تعاد في هذا السباق ..
المغامرات الشعبوية المعتمدة على أموال ضخمة وعلى خطاب ساذج ليست خاصية تونسية على عكس ما تعتقد «الأدمغة المفكرة» في أحزاب الحكم، وصعود هذه التيارات يتناسق دوما مع الإخفاقات المتواصلة للمنظومة الحزبية التقليدية بيمينها ويسارها ، وقد وصلت بعض هذه التيارات إلى الحكم بما في ذلك في أمريكا «زعيمة العالم الحر» ولكن للديمقراطية آليات تصمد بها وتسمح لها بالمقاومة ولكن ذلك يستدعي بالطبع أن تأخذ الأحزاب الكلاسيكية العبرة من إخفاقاتها المتكررة وأن تجدد قياداتها وخطاباتها وممارساتها ..
في تونس اختارت هذه الأحزاب أن تبقي الأمور كلها على حالها وأن تقصي فقط هؤلاء اللاعبين الجدد من المعركة السياسية ..
ثم هل قدرت هذه الأحزاب السلوكيات المحتملة للناخبين ؟ وهل سيكفي قانون لتعديل الكفة ولإرجاع الثقة في منظومة يرفضها اليوم جزء متعاظم من التونسيين ؟
ترى هل سيغير قانون من الرغبة العقابية للناخبين ؟ وعلى افتراض أنهم لن يجدوا عناوين العقاب اليوم المتمثلة في هذه المغامرات الشعبوية أفلا يستعيضون عنها بعناوين أخرى قد تكون اشد قسوة على المنظومة الحالية؟
هذه هي عناصر الهزيمة المعنوية لو تم إقرار هذه التعديلات أما لو رفضت هذه التعديلات فستكون الهزيمة مضاعفة وقد يعرض حينها هذا التصرف الطفولي لأحزاب الحكم البلاد إلى هزة عميقة وقوية لا يمكن لأحد أن يتوقع اليوم تداعياتها على البلاد..