افريل 2019 والنتيجة الأساسية هي تحطيمنا لرقم قياسي جديد في عجز ميزاننا التجاري الذي بلغ 6337 مليون دينار للأربعة أشهر الأولى لسنة 2019.
وعندما نقارن هذا العجز مع نظيره في سنة 2018 نجده قد تطور بصفة مفزعة منتقلا من 5085 مليون دينار إلى 6337 مليون دينار وبنسبة تطور تبلغ %24.6 أي لو تواصل العجز بنفس هذه الوتيرة مقارنة مع السنة الفارطة فقد يناهز 24 مليار دينار في نهاية هذه السنة ، ولكن حتى في فرضية تحكم أفضل في مبادلاتنا التجارية فلا يتوقع أن ينزل العجز التجاري تحت سقف 20 مليار دينار لهذه السنة .وهذا ما يعطينا فرضية وسطى بـ22 مليار دينار لـ2019. ولندرك مدى كارثية الرقم يكفي أن نذكر أن عجزنا التجاري كان في حدود 12.6 مليار دينار في 2016 ثم ارتفع إلى 15.6 في 2017 ثم 19 في 2018، أي أننا أمام ارتفاع صاروخي منذ 2017.. ارتفاع يبدو وكأنه قدرنا المحتوم .. إلى حد الآن على الأقل ..
من نافلة القول التذكير هنا بأننا لن نتمكن من إصلاح أي شيء في المؤشرات الكبرى لاقتصادنا ما دام عجز الميزان التجاري بهذا المستوى. لأن هذا العجز سيفاقم من عجز الميزان الجاري نظرا لعدم قدرة كل مواردنا المالية من السياحة ومن تحويلات مواطنينا بالخارج على تغطية ولو نصف هذا العجز وبالتالي سيتواصل انحدار الدينار رغم صموده الملحوظ خلال هذه الأشهر الأربعة الأولى وسيؤثر ذلك على التضخم وستزداد حاجتنا للاقتراض الخارجي الخ.. إنها حلقة مفرغة تلك التي نتخبط فيها منذ سنوات ..
ما الذي أوصلنا إلى هذا ؟
عناصر عديد تضافرت لتجعل من وضعية العجز التجاري غير المحتمل وضعية هيكلية لا يمكن إصلاحها باللعب فقط على بعض عناصرها الخارجية ..
كيف كانت تتحقق التوازنات المالية والاقتصادية الكبرى لتونس منذ ثلاثة أو أربعة عقود ؟
يمكن أن نقول إن «المنوال الاقتصادي» التونسي منذ بداية السبعينات كان يقوم على الأبعاد التالية :
• تعصير الفلاحة بالطرق الكمية (الثورة الخضراء) وتحقيق الاكتفاء الذاتي في منظومات أساسية : اللحوم الحمراء والألبان والبيض واللحوم البيضاء ..
• تحويل كامل البلاد إلى منطقة حرة وتركيز وتنويع الصناعات التحويلية ذات القدرة التشغيلية المرتفعة
• خلق طبقة جديدة من رجال الأعمال وخاصة في القطاعات الصناعية والسياحية
• المراهنة الأساسية على التصدير نظرا لضيق السوق التونسية وهذا يعني المراهنة على القطاعات الأساسية في الصناعات المعملية القادرة على اكتساح الأسواق الأوروبية خاصة كالنسيج ثم بعد ذلك أضحت الريادة للصناعات الكهربائية والميكانيكية فهذان القطاعان يمثلان اليوم حوالي ثلثي تصدرينا من السلع .
• التركيز على السياحة الشاطئية ذات الكلفة المنخفضة والقدرة التنافسية الكبيرة
• الاستغلال الأمثل للثروات الطبيعية من بترول وغاز وفسفساط
• التعويل الجزئي على تحويلات مواطنينا بالخارج
هذه الإستراتيجية متعددة الاتجاهات هي التي أعطت أساسيات المنوال التونسي ولكن ظهرت حدوده فيما بعد إذ تبين عجزنا عن الارتقاء في سلم القيم والمراهنة الجدية على القطاعات ذات القيمة المضافة المرتفعة ،وكان هذا الأمر واضحا منذ أواسط سنوات الألفين خاصة عندما بدأت بطالة أصحاب الشهادات العليا في ارتفاع مطرد..
ولكن ماذا فعلنا لهذه التوازنات التي قام عليها اقتصاد البلاد على امتداد نصف قرن ؟
• عطلنا بصفة هامة الاستفادة من ثرواتنا الطبيعية بتعلة حسن تقسيمها وتوزيعها ، فلم ننتج ولم نتقاسم
• فهمنا أن انفتاح السوق العالمية يعني انفتاح المستهلك التونسي على بضائعها لا بأنها انفتاح الأسواق العالمية على إنتاجنا ..فتحولت تبعا لذلك أجزاء من منظومتنا الصناعية إلى متاجر للتوريد فقط فأنتجنا ما يمكن أن نسميه بالاقتصاد الطفيلي والذي انضاف إليه استفحال التهريب الذي أضر خاصة بقطاعات النسيج والجلود والأحذية والصناعات التقليدية والكهربائية ..
ومنذ سنتين ونحن ندفع فاتورة هذه التراكمات مضاف إليها سوء إدارة سعر الصرف في افريل 2017 والذي انهار لا نتيجة لسياسة تصديرية هجومية بل لخطأ اتصالي فادح ندفع كلفته إلى اليوم.
نحن بصدد اختبار حقيقة رياضية : كلما تأخرنا في اخذ القرار السليم كانت الكلفة باهظة .
لقد كان بإمكاننا أن نحقق اكتفاء ذاتيا في الطاقة وان نرتفع به في سلم القيم لو استثمرنا في الطاقات البديلة ولاسيما الشمسية بكل قوة منذ أكثر من عقد .. لقد كان بالإمكان تحويل صحرائنا إلى مصنع إقليمي لإنتاج الطاقة الشمسية بدءا باستهلاكنا الداخلي ثم تصدير الفائض إلى جيراننا : الجزائر وليبيا والاتحاد الأوروبي.. ولكن تأخرنا في اخذ القرارات الضرورية قبل الثورة وخاصة بعدها وغلبنا الأوهام الإيديولوجية على المصالح الحيوية للبلاد ، فاضحينا مستوردين هيكليا للطاقة وتقدم غيرنا وتقلصت بالتالي إمكانيات ضخمة كانت متاحة لتونس منذ سنوات الألفين .
كما أننا تركنا بلادنا تتراجع صناعيا دون أن يحرك لنا ذلك ساكنا ولم ننتبه إلى خطورة الوضع إلا مؤخرا بعد أن تحول جزء من نسيجنا الصناعي الإنتاجي إلى طفيليات التوريد السهل ..
لا نعتقد أن مقاومة الانفتاح الاقتصادي أو العولمة أمر مفيد ولا أن الحمائية هي الحل ولكن لو أردنا الاستفادة من إمكانيات العولمة - وهي حقيقية – فلن نستفيد إلا لو تقدمنا لها كمجتمع منتج لا كمجتمع مستهلك .
وفي الانتظار يتواصل النزيف .