الاقتصادية والمالية والنقدية للبلاد وترابط مختلف عناصرها وتأثير كل دائرة في الأخرى، وتظافر السلبيات في هذه الدوائر الثلاث التي أدت إلى هذه الأوضاع والتي وجد لها البنك المركزي تلخيصا طريفا: 2/4/4/6 وهي نتيجة المقارنة بالأسعار القارة بين سنتي 2010 و2017 إذ تضاعف عجزنا الصافي بست مرات وتضاعف عجزنا الطاقي بأربع مرات وانقسمت مواردنا من الفسفاط على أربع وتراجعت مواردنا من العملة الأجنبية من السياحة الى النصف...
واذا ما أضفنا إلى ذلك الانهيار الكبير للدينار منذ أواسط 2016 والعجز التجاري الاستثنائي في 2017 و 2018 وما نتج عنه من عجز ميزان الدفوعات الخارجية بنسبة 11،2 ٪ من الناتج المحلي الاجمالي لسنة 2018 مع ضغوطات تضخمية منذ سنتين... إذن الترفيع في نسبة الفائدة المديرية بـ 100 نقطة قاعدية ليس هو نقطة البداية ولا هو نقطة النهاية بل هو بمثابة صيحة فزع ومحاولة لايقاف الانهيار ومنع التضخم من بلوغ نسب غير متحكم بها بما قد يقضي على كل امكانية إصلاح رغم ما لهذا القرار من انعكاسات مباشرة سلبية على عموم المستهلكين أو المؤسسات الاقتصادية...
ولكن السؤال الأهم يبقى دون جواب مقنع الى اليوم: من المسؤول عن هذا التدهور التاريخي والمتفاقم لأوضاعنا الاقتصادية والمالية والنقدية؟ هل هي حكومات ما بعد الثورة فقط أم أوضاع الانفلات الناجمة عن المسار الثوري أم المطلبية المجحفة التي هيمنت على كل «قبائل» تونس المعاصرة؟
ولكن هل يمكن الحديث عن المسؤوليات زمن الثورة دون فهم آليات اشتغال الاقتصاد التونسي قبلها؟ الأكيد لا...
من الصعب أن نلخص في كلمات قليلة طبيعة الآلة الانتاجية التونسية على امتداد عقود ما بعد الاستقلال ولكن الواضح أن البلاد قد عمدت الى استراتيجية الاستفادة القصوى الممكنة من كل المتاحات...
فبعد عشرية الستينات والتي حاولت فيها الدولة أن تكون قاطرة التنمية والنمو في ذات الوقت بنجاحات أكيدة وببعض الاخفاقات كذلك جاءت حكومة المغفور له الهادي نويرة بفكرتين أساسيتين: خلق طبقة جديدة من نساء ورجال الأعمال عبر دعم مالي وحماية للسوق الداخلية وجعل تونس كلها منطقة حرّة بما يعرف بـ«قانون 1972» فأوجدنا بها نسيجا صناعيا متنوعا إلى حدّ ما في إطار استراتيجيا البحث عن شراكات المناولة (Joint-venture) بما يسمح لنا بأن تكون لنا مؤسسات صناعية رفع بعضها في سلم القيم وأضحت من الشركات المهيمنة اقليميا..
والرهان الأساسي كان أنذاك التصدير كالمخرج الأساسي لتطوير المنتوج الوطني وتوفير ما نسميه بالعملة الصعبة وبالتزامن مع ذلك راهنت بلادنا على السياحة كقطاع استراتيجي وكان المحرك الأساسي لصناع القرار هو ألا يرتهن اقتصادنا لبعد واحد وأن تكون هنالك المرونة الكافية للانخراط في الأسواق العالمية ولتأهيل آلتنا الانتاجية حتى نحقق التوازن الاجمالي بين مداخيل البلاد ومصاريفها باعتبار محدودية الموارد الطبيعية لتونس...
ولكن ما لا ينبغي نسيانه هو أن توازنات البلاد كانت دائما صعبة وأحيانا هشة، فلا ينبغي أن ننسى أزمة 1986 حين نزل مخزوننا من العملة الصعبة تحت نصف الشهر واضطررنا حينها إلى الدخول في برنامج الإصلاح الهيكلي.. وذلك نتيجة سياسات الثمانينات غير المدروسة وتأخر الاصلاحات آنذاك..
إذن ورغم التوازن الجيد نسبيا لجلّ مؤشراتنا الاقتصادية والمالية والنقدية في نهايات سنوات الألفين فذلك التوازن كان هشا وكان كذلك على حساب تنمية متكاملة ومتوازنة لكل جهات البلاد، ولكنها توازنات لم تمنع من قيام الثورة على منظومة الحكم رغم تحقيقها لنسب نمو مقبولة...
مع الثورة حصل أمران اثنان على غاية من الأهمية: تعطل بعض محركات النمو الكلاسيكية للبلاد وعدم قدرتنا على وضع البلاد بسرعة على سكة العمل والانتاج والقيام بالاصلاحات التي تأخرت كثيرا منذ ما يزيد عن العقدين من الزمن...
لقد تعاملت كل الحكومات المتعاقبة مع أوضاع استثنائية بتدابير عادية وكلاسيكية، وقد يعود ذلك الى التعاقب السريع لفرق الحكم ولعجز الجميع عن الحدّ من الانفاق العمومي وكذلك عن ارجاع نسق الانتاج في الفسفاط والاستكشاف والانتاج في الطاقة مع مطلبية لا تتناسق البتة مع الامكانيات الفعلية للبلاد فلجأت كل الحكومات المتعاقبة الى الحلّ الوحيد المتاح وهو الاقتراض الداخلي والخارجي...
نحن هنا أمام محصلة مرحلة كاملة فإما أن نواصل في اهدار طاقات البلاد المحدودة أو أن نعود بكل قوة إلى العمل وبالاستغلال الأقصى لكل محركات الانتاج مع المعالجة الآنية لثلاثة ملفات كبرى: الصناديق الاجتماعية والمؤسسات العمومية ومنظومة الدعم.. وبعد ذلك، بل وبالتزامن مع ذلك، اصلاح منظومة التكوين وتكوين اضافي لكل العاطلين عن العمل والشروع الجدي في إصلاح منظومتنا التربوية وغرس التفوق والتميز فيها..
في تونس نتخاصم اليوم على تقسيم ثروة لم ننتجها ولا يثق بعضنا في البعض الآخر بينما يبدأ الإصلاح الفعلي بزرع الثقة أولا وخلق الثروة ثانيا وإلا فمتاعب الغد ستكون أقصى بكثير من مصاعب اليوم.