والتي جاء فيها بالخصوص أن عجز الميزان التجاري لتونس قد تجاوز عتبة 19 مليار دينار في سنة 2018 (19049 مليون دينار ) بعد أن كان في حدود 15.6 مليار دينار في 2017 و12.6 مليار دينار في 2016.
صحيح أن التصدير قد ارتفع بـ19.1 % ليكون في حدود 41 مليار دينار ولكن التوريد ارتفع بدوره بنسبة 20 % ليصل إلى 60 مليار دينار وهكذا تراجعت نسبة التغطية لتكون في مستوى %68.3 بعد أن كانت بـ68.8 % في سنة 2017..
ولكن الذي يهمنا في هذا الرقم المفزع حقا هو التردي السريع للعجز التجاري خلال سنتي 2017 و2018 بعد أن كان على امتداد كامل السنوات الأخيرة ما بين 11 و13 مليار دينار .
نحن هنا بلا منازع أمام أهم إخفاق لحكومة الشاهد منذ توليها الحكم إذ لم تقدر ، منذ البداية ، على وضع خطة استباقية لمواجهة العجز التجاري المهول الذي طالما حذر منه المحافظ السابق للبنك المركزي السيد الشاذلي العياري عندما كان في حدود 12 مليار دينار وكان يردد دوما انه من غير المعقول أن نهدر شهريا مليار دينار ، ولكن خلال هاتين السنتين الأخيرتين تفاقم هذا العجز بوتيرة جنونية تتجاوز 20 % سنويا دون أن نتمكن حتى من فهم دقيق لدواعي هذا العجز..
قد يعتقد بعضهم أن مرد هذا العجز هو الانزلاق الهام للدينار خلال هاتين السنتين ..
هذا يفسر جزءا ولاشك من العملية ولكن ننسى أن كل الدول التي لجأت إلى مثل هذه السياسة إنما كان الهدف منها الضغط على عجز الميزان التجاري بإعطاء دفعة تنافسية للإنتاج المحلي وكبح جماح استهلاك البضائع الأجنبية التي تفقد من تنافسيتها بحكم غلائها المشط ..
ولكن في تونس لم يحصل هذا بدءا لأن التراجع الكبير لسعر صرف الدينار لم يكن سياسة دولة محكمة ومبرمجة لدفع سياسة هجومية للتصدير بل نذكر جيدا أن المنطلق كان خطأ تواصليا من وزيرة المالية السابقة السيدة لمياء الزريبي عندما سألتها زميلتنا مريم بالقاضي حول احتمال وصول اليورو إلى مستوى 3 دينارات (وكنا في شهر أفريل 2017 وكان سعر اليورو بـ2.5 دينار ) فأجابت الوزيرة أن 3 دينارات نسبة مبالغ فيها ولكن ربما يكون بـ2.8 دينار.. وهنا حصلت الكارثة والتكالب عن العملة الأجنبية وعجز البنك المركزي عن الدفاع عن العملة المحلية نظرا لانخراطنا في برنامج صندوق النقد الدولي ثم إن الدفاع المستميت عن العملة الوطنية كان سيكلفنا خسارة شبه كاملة لمخزوننا من العملة الأجنبية ..
ولكن حتى بعد حصول هذا الخطأ لم تتمكن الحكومة من ضبط هذا التراجع الملفت ولا حتى من استغلاله لمزيد التصدير لاسيما في الصناعات المعملية علاوة على التراجع المستمر لتصديرنا من الفسفاط ومشتقاته والمحروقات ..
ولكن هنالك عامل ثان لم تدركه الحكومة إلا بصفة متأخرة جدا وبعد فوات الأوان وهو عامل المضاربة على العملة بواسطة توريد المواد الأولية ونصف الأولية غير القابلة للتلف، فمن كان يورد ألف طن من الخشب أو الحديد أو غيرهما من المواد الأساسية قام بتوريد أضعاف هذه الكمية نظرا لتحقيقه لربح سنوي إضافي بحوالي 20 % نظرا لانزلاق الدينار بالنسبة لليورو خاصة وهذا لم تتفطن إليه وزارة التجارة إلا بصفة متأخرة للغاية..
هنالك ولاشك دور للعجز الطاقي الذي بلغ حوالي ثلث العجز الإجمالي (32.4 %) ولكن العجز خارج الطاقة قد بلغ 12.9 مليار دينار مقابل 11.6 مليار دينار لسنة 2017 أي أن العجز التجاري دون احتساب الطاقة قد تطور بأكثر من 11 % ما بين سنتي 2017 و2018 وبالتالي لا يمكن الاعتماد على العجز الطاقي لتبرير إجمالي العجز ..
ثم لا ينبغي أن ننسى أن عجزا بمثل هذه الضخامة يؤثر سلبا على ميزان دفوعات الدولة التونسية وان هذا العجز يسدد طبعا بالعملة الأجنبية ويكفي أن نعلم اليوم أن مخزوننا الحالي من العملة الأجنبية هو 13.6 مليار دينار وهو يغطي فقط 81 يوم توريد بينما يمثل عجز الميزان التجاري حوالي 112 يوم توريد..
وتبقى معضلة تونس هي ذاتها دون وجود حل لها : عجز خيالي مع بعض الدول وخاصة الصين الشعبية بـ5.4 مليار دينار وايطاليا 2.9 مليار.د وتركيا 2.3 مليار.د وتمثل هذه الدول لوحدها 56 % من إجمالي العجز التجاري لتونس ونسبة التغطية معها مضحكة خاصة مع الصين الشعبية بـ5 % وتركيا بـ%15.8 بينما تبلغ نسبة تغطيتنا مع دول الاتحاد الأوروبي 94.4 % مع العلم أننا نصدر إلى هذه الدول ثلاثة أرباع بضاعتنا ونستورد منها نصف ما يدخل لبلادنا ..
نحن أمام وضع يتفاقم من سنة إلى أخرى بشكل أصبح يهدد في العمق كل جهدنا التنموي ، فلا أمل لنا في إيجاد التوازنات المعقولة لوضعنا الاقتصادي ما لم نعالج هذا العجز التجاري المهول ..
والإشكال هنا هو ليس في ضعف قدرة الاستباق لدى أجهزة الدولة ولاسيما وزارة التجارة بل في غيابه إذ هي تكتشف الكوارث إبّان حصولها وغير قادرة على وضع الاستراتيجيات الكفيلة بالحد من هذا النزيف ..
في دولة شقيقة كالمغرب وضعت حكومتها رسوما قمرقية إضافية ضد الكراس التونسي بحجة إغراق السوق .. أما نحن فقد أصبحنا متجرا صينيا تركيا دون أن تحرك دولتنا ساكنا..
تلك هي المعضلة ..