إلا المفاوضون المحترفون سواء أكانوا من الحكومة أو من المركزية النقابية ، وهذا الجانب لا يعني كثيرا الطبقة السياسية لا في بلادنا ولا في غيرها من بلدان العام ..
ولكن لهذه المفاوضات معاني تتجاوز نسب الزيادات وتواريخ صرفها إذ تتعلق بفلسفة الإنفاق العمومي وبسياسة التأجير عامة في البلاد وهذه قضايا في عمق السياسة والشأن العام ولكل حزب حاكم أو مشارك في الحكم أو طامح إليه رأي ووجهة نظر .. هذا على الأقل في النظم الديمقراطية .. أما عندنا فالأمر لا يخلو من مواقف ثلاثة :
• عدم الاكتراث في الجوهر بالنسبة لأحزاب الحكم وبعض أحزاب المعارضة أيضا التي لا تريد التورط في موقف واضح حتى لا تخسر جماهيريا ومن ثمة انتخابيا .
• موقف المساند اللامشروط للمطالب النقابية دون علم بتفاصيلها ولا بحجمها ولا بطريقة تمويلها .
• الدعوة إلى الحكمة وإيجاد التوافق بين الحكومة والنقابات خشية تحول الأزمة الاجتماعية إلى أزمة حكم ..
ولكن في كل هذه «المواقف» لا نرى في الحقيقة موقفا واضحا من سياسة التأجير العمومي ومن الطريقة التي يمكن أن نحافظ بها في نفس الوقت على التوازنات المالية للدولة مع التحسين التدريجي للقدرة الشرائية للموظفين ..
سؤال بريء نوجهه لكل قيادات الأحزاب اليوم ولا سيما منها تلك الطامحة إلى لعب دور ما في الحياة السياسية للبلاد : لو كانت هي في الحكم اليوم لوحدها كيف كانت ستتصرف إزاء وضعية كهذه ؟
وهنا لا يفيد كثيرا جواب : هذه الوضعية جزئية إذ لو كنا في الحكم لغيرنا المعادلة رأسا على عقب وسوف ندرج بالتالي مسألة المفاوضات الاجتماعية في الوظيفة العمومية في أفق مختلف تماما عما هو عليه الأمر اليوم ..
هذا الجواب فيه قدر كبير من المخاتلة ومن تجنب الإجابة الفعلية والصريحة ..
لنفترض أن الاتحاد والحكومة قد توصلا في الأيام القليلة القادمة إلى اتفاق بسنتين يبدأ مفعوله من شهر أكتوبر 2018 وينتهي مع موفى سبتمبر 2020 في هذه الوضعية ستكون الحكومة الناجمة عن انتخابات خريف 2019 بعيد أشهر قليلة من الحكم أمام استحقاق استئناف مفاوضات جديدة ، تماما كما كان حال حكومة الحبيب الصيد .. عندها كيف ستتصرف هذه الأغلبية الجديدة سواء أكانت ندائية أو نهضوية أو شاهدية أو جبهوية أو تيارية أو غيرها ؟
هل بإمكان حزب جدي اليوم الاعتقاد بأن وضع تونس سيتغير حتى بصفة جزئية فقط لأن أغلبية الحكم قد تغيرت ؟
هل يعتقد حزب واحد اليوم سواء أكان من اليمين أو اليسار أو الوسط أن الفوز في الانتخابات القادمة سيعطيه صكا على بياض أمام النقابات ومختلف قطاعات الوظيفة العمومية ؟
ألا يوجد تناقض هيكلي تشكو منه جل أحزاب العالم يقول بسخاء الوعود الانتخابية وبقلة ما في اليد بعدها ؟ !
لنراهن منذ الآن بأن جل الأحزاب التي ستتنافس بعيد أشهر على أصوات الناخبين ستتسابق في الوعود ومن أهمها، على ما نعتقد ، الترفيع الهام في الأجر الأدنى مع ما يقتضيه هذا مباشرة من ترفيع عام في كل أجور الموظفين .. ترى بعد فرحة الفوز هل سيلتزم هذا الحزب بهذا الوعد ؟ أم سيصطدم باكرا هات الحكم ويفيق من نشوته ويبدأ في التسويق لخطاب من صنف أن الزيادات التي وعدت بها إنما ستحصل تدريجيا وبعد إدخالنا لإصلاحات جذرية على منوال التنمية ؟ !
لا احد يطلب من حزب معارض أن يغيث أغلبية حاكمة تتخبط في أزمة اجتماعية ولكن ما نلاحظه في تونس هو غياب أحزاب الحكم في مثل هذه الوضعيات ثم إننا أمام قضايا رأي عام ومسائل جوهرية في كل بلد ولكن الإشكال في بلادنا أن بعض أحزاب المعارضة تفكر وكأنها مؤبدة في هذا الوضع وكأنها غير معنية لا اليوم ولا غدا بتسيير البلاد..
تونس على بعد أشهر قليلة من انتخابات يرجو بقية المتفائلين أن تبدأ في تغيير جدي للأوضاع ، وهذا يستوجب حتما أحزابا وتحالفات قوية ، ولا معنى لهذه القوة دون برامج واضحة وحلول قابلة للتنفيذ ، أي أحزابا تقطع مع الوعود الزائفة والحلول السهلة..
الأزمة الحالية في المفاوضات الاجتماعية كشفت بصفة غير مباشرة هشاشة كامل منظومتنا الحزبية ..
الإصلاح مازال ممكنا شريطة الانقطاع لما ينفع الناس ..
الطبقة السياسية والمفاوضات الاجتماعية « فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنّا ها هنا قاعدون» (قرآن كريم)
- بقلم زياد كريشان
- 11:36 10/01/2019
- 1983 عدد المشاهدات
لاشك أن للمفاوضات الاجتماعية في القطاع العام، ولا سيما الوظيفة العمومية، جوانب تقنية لا يتقنها ولا يفقه سرها