الاحتجاج الدائم للتكتلات الجهوية والمهنية والمصلحية: عندما تخضع الدولة لجمهورية القبائل

بعد حوالي ثماني سنوات من قيام الثورة وهروب بن علي وانتخابات التأسيسي فالبرلمان والرئاسية

ثم البلدية هل بدأنا ننسج بصفة جدية معالم العقد الاجتماعي الجديد لتونس اليوم؟ عقد يعرف ما يربط بيننا وما يجعلنا شعبا موحدا ذا أهداف واضحة؟

سيكون من الغلوّ ومن المبالغات اللفظية أن ننفي كل تقدم في هذا المضمار، فانجازنا للدستور هو خطوة هامة في هذا العقد الاجتماعي وكذلك قدرتنا على حلّ خلافاتنا بالطرق السلمية ولكن هنالك فكرة أساسية تؤسس للعقد الاجتماعي مازالت غائبة عن أذهان وممارسات كل «القبائل» التونسية. هذه الفكرة هي « الصالح العام» أي تلك المساحة التي لا تلغي مصالح الأفراد والمجموعات و«القبائل» ولكنها تتجاوزها للتأسيس لخيط ناظم لكل هذه المصالح، خيط قد يحققها جزئيا لا باعتبارها «إملاءات» القبائل بل بوصفها لبنات أساسية لعيش مشترك ممكن...

نظريا الدولة هي المجسّد الأساسي لفكرة الصالح العام، فالدولة هي التي ترعاه لا باعتبار توازن الرعب المنجر عن حروب القبائل بل لأنه هو الذي يسمح لشعب ولأمة بالتقدم والازدهار.
«القبيلة» تقوم على فكرة بسيطة: السلم داخل القبيلة والحرب خارجها، التقاسم الداخلي ولو ببعض التمايز و«النهب» في الخارج باعتباره من أهم مصادر استرزاق القبيلة..

للقبيلة منطق داخلي وقيم ومخيال جماعي مشترك قائم على فكرة أن الحق كل الحق هو داخل القبيلة ولاحق خارجها حتى وان اضطرت الى ابرام معاهدات مع غيرها فهي تنتظر دوما تحول موازين القوى لصالحها لتفوز من جديد وتتوسع على حساب غيرها.

القبيلة ليست فقط تلك الوحدة البشرية التي كانت استمرارا للعائلة والوحدة الأساسية لتنظم المجتمع البشري قبل بروز الدولة.. القبيلة بهذا المعطى المادي قد غابت عن جلّ بقاع الدنيا ولكنها بقيت بمعطياتها الرمزية وبمخيالها الجماعي.. فالقبيلة العصرية هي دوما امتداد للعائلة ولكن رابطة الدم قد تم تعويضها بروابط أخرى جهوية (وهي الأقرب الى روح القبيلة التقليدية) أو مهنية أو عقائدية أو مجموعة مصالح، المهم هو أن تكون الهوية القبلية أقوى من الهوية الوطنية أو أن يعتبر أصحاب بعض القبائل أن هويتهم القبلية هي ذاتها الهوية الوطنية..

ويعود هذا الشكل القبلي الحديث أو القديم الى السطح كلما ضعفت الدولة أو غابت أو عجزت عن الاضطلاع بالصالح العام أو كانت الدولة كلها في خدمة قبائل بعينها على حساب أخرى..
في تونس اليوم أضحت «القبائل العصرية» تضاهي في قوتها أحيانا قوة الدولة بل وتبزها في بعض الحالات وتفرض عليها التراجع أو الانصياع لارادتها..

لقد تحدثنا كثيرا عن القبائل الجهوية والقطاعية والمهنية والتي تمكنت في مرات كثيرة من فرض ارادتها على الدولة ولكن هنالك قبائل أخرى لا نتحدث عنها كثيرا وهي قبائل أصحاب المصالح وبعض الأنشطة الاقتصادية المخصوصة..
لا جدال في حق كل طرف في السعي إلى اقناع أصحاب القرار بوجهة نظره ولكن ما شاهدناه هذه الأيام بمناسبة قانون المالية تجاوز كل الحدود وأظهر الدولة كقاصر غير قادر على فرض ارادته، باسم المصلحة العامة، على بعض القبائل النافذة...

نريد أن نؤكد في البداية على أن ازدهار المؤسسة الاقتصادية الخاصة مسألة حيوية للبلاد وأن النمو والتنمية لا يمكن إلا أن يمّرا عبر مؤسسات اقتصادية قوية وذات مردودية مالية عالية حتى يتضاعف الاستثمار وتنمو فرص الشغل ويكون الابتكار والتجديد ممكنا..
ولكن هل يمرّ كل هذا بواسطة التخفيض في الضرائب؟ وهل صحيح أننا كلما خفضنا في الضريبة على المؤسسات ازدهرت هذه الأخيرة واستفاد منها الاقتصاد الوطني؟

هل صحيح أن مرور بعض القطاعات (كالمساحات الكبرى ووكلاء السيارات وممثلي العلامات الدولية ) من 25 ٪ الى 35 ٪ في نسبة الضريبة على الشركات سيهدد هذه القطاعات وسيسهم في تدهور القدرة الشرائية وفي تراجع الاستثمار أي في كارثة اقتصادية محققة؟؟
لنأخذ المثال الفرنسي للانارة.. اليوم الضريبة على الشركات في فرنسا هي في حدود 33٫33 ٪ ولكن مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى تسهم المؤسسة الاقتصادية في النهوض بالبلاد كانت الضريبة على الشركات في مستوى 50 ٪ وذلك من سنة 1949 الى حدود سنة 1985 ولا نعتقد أن ذلك قد ساهم في غلاء الأسعار أو تراجع الاستثمار.. ثم نحن نتحدث عن قطاعات لا تخضع بحكم القانون للمنافسة الأجنبية وحتى المنافسة الداخلية فيها محدودة للغاية ونسبة المخاطر فيها من أضعف النسب في الأنشطة الاقتصادية..

كنا نفهم موقف هذه المجموعات لو تعلقت الضريبة بالترفيع في الاداءات الديوانية أو بالقيمة المضافة فهذا كله ينتج ارتفاعا في الأسعار أما الترفيع في الضريبة على الشركات فلا يمس الا القدرة الشرائية للمساهمين فقط لا غير...
كيف يمكن للدولة أن تقول لأجرائها في الوظيفة العمومية بأنها لا تقدر على زيادة في الأجور ولكنها في نفس الوقت تخضع للسنة الثانية على التوالي لارادة بعض القطاعات بحجج أوهن من بيت العنكبوت؟!

وكل ما قلناه عن هذه «القبائل» يصح على غيرها ورأينا كيف أن الحكومات المتعاقبة لم تقدر على الصمود أمامها هذا إن لم تخضع لها ولارادتها، وهذا يعني أن الدولة لم تعد في أعين التونسيين مستأمنة على الصالح العام وكادت تصبح هي بدورها قبيلة من القبائل. وتونس لن تخرج من هذا الخطر الذي يهدد وحدتها لو لم تجعل من «الصالح العام» نبراسها الأساسي ولو لم يكن الحكام فوق كل الشبهات وفوق كل اللوبيات وفوق كل القبائل..
ولكن ...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115