أمام عجز للميزان التجاري حطم كل الأرقام القياسية وأضحى الخطر الأكبر على اقتصاد البلاد: ما العمل ؟

انعقد صبيحة يوم أمس مجلس وزاري مضيّق حول الطرق الكفيلة بالحد من عجز الميزان التجاري

والعمل جار – حسب ما وردنا – لأخذ جملة من الإجراءات للحد من هذه الآفة التي أضحت تمثل الخطر الأكبر الذي يهدد التوازنات الكلية لاقتصادنا .

لابد أن نقر بداية بأن الاقتصاد التونسي لم يتمكن منذ سنة 1960 إلى اليوم من تغطية وارداته بصادارته وأن نسبة التغطية تجاوزت في مناسبة واحدة %80 وكان ذلك نتيجة خارجية بالأساس وهي الصدمة البترولية التي سمحت لنا بنسبة تغطية في سنة 1974 بـ%81.4 بعد أن كانت هذه النسبة أحيانا دون 50 % في الستينات (%48.7 في 1965) ولم تتجاوز %70 بصفة مستمرة إلا في سنوات 2000 (الدنيا كانت في 2002 بـ%72.2 والقصوى بـ%79.8 في 2005) أي أن عجز ميزاننا التجاري مسألة هيكلية في الاقتصاد التونسي ولكنه لم يخرج في الأغلب الأعم عن السيطرة إذ لم يتجاوز الرقم القياسي قبل الثورة 8.3 مليار دينار وكان ذلك سنة 2010.

فنحن لسنا أمام ظاهرة جديدة بل أمام تفاقم لهذا العجز، من الناحية الكمية بصفة غير مسبوقة فبعد ان كان عجز الميزان التجاري يتراوح خلال سنوات 2012 - 2016 ما بين 11.6 مليار دينار في 2012 ثم 13.6 مليار دينار في 2014 نزل دون 13 مليار دينار في كل من 2015 و2016 لكننا نراه فجأة قد قفز إلى %15.6 مليار دينار في 2017 وها هو قد بلغ 14.2 مليار دينار في تسعة أشهر فقط في 2018 وإذا سار هذا العجز على نفس نسق أشهر الصيف الثلاثة فقد يتجاوز عتبة 20 مليار دينار في موفى هذه السنة وهذه كارثة اقتصادية ومالية بكل ما في كلمة كارثة من معنى.

والسؤال المحير لماذا ارتفع نسق التوريد بهذا الحد وبنسبة تناهز %20 في 2017 وقد تقارب 30 % في 2018 ؟

قد يكون الجواب، جزئيا، في نسبة انزلاق الدينار إذ أن نسبة تصاعد التوريد تعادل تقريبا نسبة انزلاق عملتنا الوطنية في 2017 وقد نفسر التفاقم في 2018 بازدياد أسعار النفط ولكن هذا التفسير لا يكفي لان انزلاق عملة ما في العادة يقوي من تنافسية السلع المحلية ويقلص من الإقبال على السلع الأجنبية نظرا للارتفاع الكبير لكلفتها، ولكن هذا لم يحصل في بلادنا ولم تتراجع نسبة التوريد، ولو جزئيا، بمفعول ارتفاع كلفتها وهذا ما يدفع بالعارفين بدقائق الأمور في بلادنا إلى الاعتقاد بأن هنالك نوعا من المضاربة على العملة الوطنية أي أن هنالك من موردي المواد الأولية ونصف الأولية من ضاعفوا كميات التوريد مرات عديدة لا لتسويقها بصفة عادية في السوق بل لخزنها وللاستفادة من تواصل انزلاق الدينار وبالتالي تحقيق أرباح ضخمة بفعل هذا الخزن، أي أن دورة الاستيراد أصبحت جزئيا منفصلة عن دورتي الاستهلاك والإنتاج وهذا يفاقم العجز التجاري وبصفة غير مباشرة التضخم من جهة وتواصل انزلاق الدينار من جهة أخرى..

ولكن هنالك آفة أخرى تنخر اقتصاد البلاد وتسهم بصفة كبيرة في تفاقم العجز التجاري وهي الاقتصاد الطفيلي الذي أصبح جزءا هيكليا في الاقتصاد المنظم ونقصد بالاقتصاد الطفيلي ذلك الجنوح المتزايد لتعويض خلق القيمة المضافة على أرض الوطن إلى يافطات تستورد المواد الاستهلاكية العادية لبيعها في الأسواق التونسية بدرجة أصبحت فيها تونس دون مبالغة متجرا للبضائع الصينية والتركية، فالعجز التجاري مع هذين البلدين في 9 أشهر يتجاوز 5.5 مليار دينار مع العلم بأن نسبة التغطية مع هذين البلدين مضحكة للغاية وأننا لا نستفيد منهما باستثمارات مباشرة ذات معنى ولا سياحة ولا غيرهما فتونس بهذا المعنى تضمن مواطن شغل صينية وتركية على حساب خلق الثروة وخلق مواطن شغل لأبنائها..

التجارة الخارجية لتونس (توريد وتصدير) تمثل حوالي %85 من الناتج الإجمالي المحلي أي مجموع خلق القيمة المضافة في بلادنا والواضح أننا لا نملك استراتيجية للتحكم في انخرام هذه التجارة الخارجية ولا قدرة على استباق منزلقاتها ومخاطرها وهذه هي الأزمة الأولى والأساسية..

الدولة اليوم غير قادرة على استباق وفهم حركة واتجاهات التجارة الخارجية للبلاد وهذا يعني ضرورة غياب الكفاءة والقدرة في هذا الموقع الحساس ولا نقصد هنا فقط وزير التجارة بل المنظومة بأسرها..

تونس تحتاج اليوم قبل اتخاذ اجراءات عاجلة للحد من الكارثة وضع المنظومة القادرة على الاستباق واليقظة وأخذ القرارات الاستثنائية في ميقاتها لا بعد فوات الأوان..

لا ينكر أحد أن هذه الحكومة قد سعت لتحسين بعض مؤشرات الاقتصاد من نمو وتحكم في عجز الميزانية ولكن العجز التجاري التاريخي والكارثي هو عنوان فشلها الأكبر..

والمهم اليوم ليس البكاء على الأطلال والبحث عن كبش فداء بل وضع المنظومة القادرة على استباق الازمات وحسن إدارتها..

نحن في وضع حساس للغاية نحتاج فيه إلى إجراءات قوية واستثنائية تحدّ من العجز التجاري دون الاضرار بمواطن الشغل وبالمفاصل الأساسية للنمو.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115