هو المسؤول عن تردي الأداء السياسي وتفشي العنف في المجتمع أو انهيار الأخلاق وانتشار الميوعة الخ .. ولكن مع هذا أصبح التونسيون يثقون نسبيا في إعلامهم كما تبين ذلك عمليات سبر الآراء بشكل جعلهم لا يلجؤون إلى وسائل الإعلام الأجنبية للاطلاع عمّا يجري ببلادهم كما كان ذلك الحال قبل الثورة ..
وتكمن هذه المفارقة في اعتقاد جل التونسيين بأن الإعلام قد أضحى سلطة في بلادنا وانه هو المحدد الأساسي في صناعة الرأي العام وبالتالي فهو المسؤول الأول عن كل ما هو سيئ في البلاد..
هنالك أوهام كثيرة تحف بهذا الاعتقاد من بينها تصور أن صناعة الرأي العام هي مسألة يخطط لها في مكان ما وتنحت المجتمع من فوق بواسطة ما نسميه الإعلام والحال أن الملاحظة البسيطة تكفي للإقتناع بأن بعض ما يتداوله مواطنون نكرات في شبكات التواصل الاجتماعي له أحيانا تأثير يتجاوز كل الصحافة المكتوبة مجتمعة وان تنوع واختلاف وسائط وسائل الإعلام من تقليدية وجديدة تجعل من « صنع » الرأي العام مسألة معقدة للغاية لا يتحكم فيها طرف بذاته مهما بذل لذلك من قوة ومال ونفوذ..
ولكن ما قلناه لا ينفي محاولة أوساط عدة سياسية ومالية التأثير على الرأي العام بوسائل شتى ولا ينفي كذلك انخراط بعض وسائل الإعلام وبعض الصحفيين في استراتيجيات التأثير هذه والأكيد أن الأمر سيتفاقم بقدر اقترابنا من المواعيد الانتخابية الحاسمة للسنة المقبلة .
في الحقيقة نحن لسنا أمام صناعة الرأي العام بالمعنى الكلاسيكي للكلمة بل أمام « مطابخ» عديدة تعمد إلى الإشاعة أو تسعى للتأليب على جهة او شخص أو تقوم بعكس ذلك تماما أي إبراز جهة ما أو شخص بعينه كبطل منقذ تألبت ضده كل قوى الشر ..
والواضح أن أهم شقوق السلطة الحالية (رئاسة الحكومة، قيادة نداء تونس وبعض اللوبيات المقربة للقصر أو المنتصبة لحسابها الخاص) قد أعدت مطابخ إعلامية متعددة الوسائط والوسائل من اجل خوض ما تعتبره معركة وجود ومن أجل أن تصل إلى الصندوق – حسب اعتقادها – في أفضل الحالات ، وهذه المعركة لا تتوانى فيها عن استعمال كل أشكال البروباقندا تحت شعار : اكذب ،اكذب، فسيبقى شيء من هذا ..
وما يهم المواطنين ،كدافعي ضرائب ،ألا تستعمل أجهزة الدولة لا من قريب أو من بعيد لتمرير مثل هذه البروباقندا وما حصل أخيرا اثر زيارة وزير الداخلية الايطالي لتونس يبين بوضوح انخراط بعض أجهزة الدولة في بروباقندا شخصية مسيئة للبلاد هادرة لجهود موظفين بغير وجه حق..
«التسريب» الذي سرى كالنار في الهشيم ومفاده أن رئيس الحكومة رفض مقابلة وزير الداخلية الايطالي احتجاجا على مواقفه من المهاجرين ومن تونس يمثل نموذجا مضحكا ومخجلا لهذه البروباقندا التي أكل عليها الدهر وشرب ، ولا نعتقد أن الدعاية المضادة ليوسف الشاهد في بعض وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي والتي تكاد تعتبر وضع الحريات في تونس شبيها بما كان عليه الأمر زمن النازية ..لا نعتقد أن هذه الدعاية المضادة تبرر ولو بنسبة يسيرة انحراف بعض أجهزة الدولة إلى اللجوء الى بروباقندا شخصية ..
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
وما نخشاه هو أن يكثر اللجوء إلى مثل هذه الوسائل من أطراف الحكم المتصارعة فيتم النزول بالصراع السياسي إلى الحضيض ويصبح جوهره صناعة الإشاعات والإشاعات المضادة ..
لاشك أن لمختلف وسائل الإعلام ولكل الصحفيين وممثليهم أهمية قصوى في محاربة هذا الانحراف ولكن ينبغي بداية أن نميز بين الصحفيين كجسم مهني وبين وسائل الإعلام فهي مؤسسات اقتصادية بعضها له تموقعات ومصالح وبعضها لديه صعوبات اقتصادية ممّا يعمق هشاشتها ويجعلها عرضة ، أحيانا ، لبعض الإغراءات ومع ذلك هنالك وسائل إعلام أخرى تسعى جاهدة للحفاظ على الحدود الدنيا من مصداقيتها ومهنيتها .
ولابد أن يدرك الرأي العام أن العديد من الصحفيين يعيشون أوضاعا اجتماعية هشة وهذا يجعل من احترام الشروط الدنيا للمهنية وللاستقلالية مسألة عسيرة في بعض الأحيان كما أن الصحفيين مثلهم مثل بقية التونسيين قد يخترقون وقد يتم توظيف بعضهم بتواطؤ مع المعني بالأمر أو في غفلة منه ..
لكل ذلك وجدت هيئة تعديلية في الفضاء السمعي البصري ومجلس للصحافة في الإعلام المكتوب بشقيه الورقي والإلكتروني ولكن الواضح ان هذين الهيكلين التعيدليين لم يتمكنا من حماية المهنة من كل هذه الاختراقات. وفي الحقيقة لابد من تظافر جهود عدة : هياكل المهنة والإعلاميين المتشبثين بأخلاقيات مهنتهم والقضاء الناجز والعادل لكي يميز الخبيث من الطيب وكذلك يقظة المواطنين وجمعيات المجتمع المدني..
ولكن لن نتمكن من وضع حد للوبيات المال والسياسة دون دولة مثالية ودون مطابخ خلفية ..
قد يعتقد بعض الساسة أن الغاية تبرر الوسيلة ولكن يخطئ من يعتقد أن خساسة الوسيلة توصل للغاية بصفة دائمة