وعالم السياسة ليس بمعزل عن كل هذا فهو في جزء منه قصص حب وولاء وصراع وخيانة، وهو يأخذ من عالم بعض الثدييات عنصر الصراع من أجل أن يكون الواحد فيهم هو الذكر المهيمن على المجموعة ولكن يتجاوزه بما يملك الإنسان من حيلة ودهاء وخبث وتلذذ بالقتل المعنوي وكلها خصال تعجز عنها أكثر الثدييات أو الزواحف شراسة..
من كان يعتقد في تونس أن اختيار رئيس الجمهورية في أوت 2016 ليوسف الشاهد لخلافة الحبيب الصيد سينجر عنه كل هذا الصراع الذي نشاهد بعض مظاهره أمام أعيننا؟
يقول خصوم يوسف الشاهد انه لم يكن شيئا يذكر في عالم السياسة قبل تعيينه على رئاسة الحكومة وانه لم تكن لديه خصال قيادية فارقة وان الصدفة الجميلة وحدها جعلت منه ما هو عليه الآن بسلبياته وايجابياته..
ويمكن أن نقول كلاما مشابها ، إلى حدّ ما ، عن الباجي قائد السبسي.. صحيح أن الرجل قد شغل مراكز هامة في الدولة في عهد بورقيبة وتقلب في كل وزارات السيادة باستثناء وزارة العدل وكان رئيسا للبرلمان في أوائل عهد بن علي ولكن الباجي قائد السبسي لم يكن زعيما بالمعنى الدقيق للكلمة ولم يلعب الأدوار الأولى في تسيير البلاد أو في الاحتجاج الديمقراطي من داخل نظام الحكم كما كان ذلك شان المنجي سليم والطيب المهيري في البداية أو الباهي الأدغم والهادي نويرة فيما بعد أو احمد بن صالح واحمد المستيري في مجالات مختلفة.. ولو لا الاستقالة المفاجئة لمحمد الغنوشي في 27 فيفري 2011 والاستنجاد بقائد السبسي بعد أن رفض المنصب احمد المستيري لما كان لرئيس الدولة الحالي ما كان.. فالحياة كلها صدف جميلة، والشاطر من يستطيع تحويل الصدفة إلى مسار جديد في حياته..
أوت 2016 كان منعرجا جديدا في حياة رأسي السلطة التنفيذية.. الأول وهو في خريف العمر وبعد تجربة سياسية تتجاوز سبعة عقود أراد من خلال تعيين رئيس حكومة شاب أن يكون ذلك عاملا مساعدا للدخول إلى التاريخ من الباب الكبير بدءا بإنقاذ عهدة انتخابية لم تكن بدايتها موفقة لاسيما اقتصاديا واجتماعيا بفعل الضربات الإرهابية في 2015 والحذر المفرط لرئيس الحكومة آنذاك السيد الحبيب الصيد وصولا إلى تأمين تداول الأجيال وتأمين التوازن السياسي في البلاد..
سياسيا الباجي قائد السبسي هو ولي نعمة يوسف الشاهد بلا منازع إذ لو اختار شخصا آخر لهذا المنصب لما كان ليوسف الشاهد ما كان..
ما الذي جعل من علاقة بنوة روحية فيها حدب وعطف وتراتبية هرمية واضحة تؤول إلى صراع خفي ثم مفتوح تحولت فيه موازين القوى وصار فيه الأب الواهب الراعي في موقف لا يحسد عليه؟
مسائل طويلة وجزئيات كثيرة وراء كل هذا ولكن الخيط الرابط بينها جميعا هو تداخل مؤسسات الدولة مع العائلة مع اللوبيات مع شقوق الحزب الحاكم تحت آلة تضخمت تدريجيا شعارها المركزي «التوريث الديمقراطي».
لقد أطاحت هذه الآلة بكل معارضي نجل رئيس الدولة في الحزب وبرئيس الحكومة السابق عندما انبرى مدافعا عن بعض استقلاليته وكادت تعصف بحكومة الشاهد منذ أكثر من سنة، ولكن الفرق بين رئيسي الحكومة المتداولين في هذه العهدة الانتخابية هو غياب الطموح السياسي عند الأول وحضوره بقوة متفاقمة عند الثاني، حضور بدأ يتجلى منذ تعيين حكومته الأولى في أوت 2016 وما فتئ يتقوى لا فقط بفعل تخطيطه الخاص المسبق ولكن بفعل تداعي بعض قوى «التوريث الديمقراطي» ضدّه..
تلك هي مفارقة تونس اليوم .. يوسف الشاهد يشبه إلى حد ما صنيعة فرانكشتاين ، عندما حصل لديه وعي بحقيقة طموحاته تمرد على صانعه وغير موقعه من فريسة إلى صياد ..
في الصراع القائم منذ حوالي سنة ونصف بين رئيس الحكومة والمدير التنفيذي للنداء استعمل كل طرف جملة الأسلحة المتاحة له ولم يتوانيا عن الضرب تحت السنتورة كلما أمكن لهما ذلك وبحثا عن تحالفات تجعلهما يخرجان من وضعية الفريسة، والنتيجة اليوم هي النجاح النسبي ليوسف الشاهد الذي تمكن من فرض نفسه كلاعب أساسي وبإقناع القوى المؤثرة داخليا وخارجيا أنه هو المستقبل بينما تتالت نكسات النجل إلى درجة أن اقرب المقربين إليه يطالبونه اليوم بالابتعاد عن موضع القيادة في حزبه لأن ذلك سيؤدي الى غرق السفينة بمن تحمل..
والواضح أيضا أن كل المواقف السابقة لرئيس الدولة في هذا الصراع كانت لفائدة نجله إما بالتصريح في أحيان قليلة أو بالتلميح في جل الأحيان واليوم رئيس الدولة أمام مفترق الطرق وهو يتهيأ لمخاطبة التونسيين في مطلع هذه السنة السياسية الساخنة فإما أن يخضع للدوائر العائلية والحزبية واللوبوية (نسبة للوبيات) ويعلن عن نيته تفعيل الفصل 99 من الدستور ويعرض نفسه لهزيمة نكراء ولإنهاء نهائي لدوره السياسي أو أن يتعالى عن هذه الضغوط ويدعو إلى وحدة التونسيين لمجابهة الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للغاية وان هذا يستوجب إنهاء حالة التشظي السياسي بإعلان رفضه الفعلي والعملي لمسار «التوريث الديمقراطي»..
«البلاد قبل الأحزاب» كان هو شعار الباجي قائد السبسي ولكن اليوم التونسيون يطالبونه كذلك بان تكون البلاد فوق مصالح العائلة واللوبيات وان يقضي ما بقي له من زمن في عهدته الانتخابية لتهيئة البلاد لمواصلة مسارها الانتقالي بعيدا عن كل هذه الانحرافات..
«قتل الأب» هو بداية التاريخ عند فرويد، أي بداية الخروج من الحيوانية وبداية إنتاج الثقافة المؤسسة على الندم.. و«قتل الأب» في السياسة مسألة موضوعية ولكن من الآباء من يتمكن من ولوج التاريخ ومنهم من يذهب غير مأسوف عليه والقائد الكبير هو فقط ذاك الذي يحسن القيادة والتسيير ولكن أيضا يتقن فنّ المغادرة..