الأساسية في التوازنات السياسية اليوم هي ما يمكن أن نسميه بمعركة الوسط ، أي من سيسيطر على ذلك الفضاء السياسي الممتد يمينا إلى كوكبة الأحزاب التجمعية ويسارا إلى تخوم الحدود المشتركة للجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي والحراك وحركة الشعب ..
هذا الفضاء الواسع الذي افتك جل أقسامه نداء تونس في سنة 2014 تاركا بعض الفتات لجملة من الأحزاب كان أبرزها آنذاك الوطني الحر وآفاق.. والسؤال،منذ أواسط 2015 ، هو هل سيقدر النداء على المحافظة على هيمنته هذه أم أن صراعاته الداخلية المتزايدة واستراتيجية «التوريث الديمقراطي» ستفسح المجال لورثاء جدد.. وقد اشتغلت قوى عديدة على «وراثة» هذا الفضاء الانتخابي للنداء منهم كل الأحزاب المنشقة عنه وآفاق وبعض حلفاء الأمس كالجمهوري أو الأحزاب الجديدة كالبديل والحركة الديمقراطية ..
رغم الأخطاء القاتلة لقيادة النداء الملتفة حول نجل رئيس الدولة فقد باءت كل هذه المحاولات – إلى حدّ الآن – بالفشل ، ولكن المعركة المعلنة منذ أشهر بين رئيس الحكومة والمدير التنفيذي للنداء أخذت أشكالا جديدة قد تسمح لأنصار الأول بتحقيق ما عجز عنه كل خصوم حافظ قائد السبسي السابقين ..
استقالة ثمانية نواب من كتلة نداء تونس يوم السبت الفارط مثلت منعرجا هاما في هذه الحرب الداخلية التي يعيش على وقعها النداء منذ أكثر من سنة وهي تدل بوضوح بأن يوسف الشاهد وجماعته لم يعودوا معنيين بافتكاك النداء من داخله بواسطة مؤتمر ربما لأنهم أدركوا أن القيادة الحالية لن تسمح بمثل هذا الاختراق وأنها تتحكم في دواليب الحزب ، فالصراع إذن سيكون خارج هياكل النداء وستحسم فيه صناديق الاقتراع بعد سنة من الآن ..كما أن هذه الاستقالات الثماني وما قد يتبعها يدل أيضا على رغبة صاحب القصبة في تحصين موقعه برلمانيا وفي منع إمكانية قيام أية أغلبية ضده ولكن هذا يشترط بالطبع بقاء التحالف الموضوعي بينه وبين حركة النهضة وان يقدم الشاهد ما يكفي من الضمانات لكي لا تنقلب عليه الحركة الإسلامية خلال هذه الأسابيع الأساسية بالنسبة لإستراتيجية يوسف الشاهد ..
يحتاج رئيس الحكومة لإنجاح خطته إلى الخروج من القصبة في بداية 2019 وهو يعلم أن الشهر الأصعب سيكون بالنسبة له ما بقي من شهر سبتمبر والنصف الأول من شهر أكتوبر لأنه لو صمد إلى ذلك الحين يصبح من الصعب المطالبة برحيله ولجان البرلمان تناقش مشروعي قانون المالية والميزانية لسنة 2019 ، ولكن ولئن حصنت الحكومة مواقعها برلمانيا فإنها مازالت مهددة اجتماعيا وهي تخشى من خريف احتجاجي ساخن خاصة إذا ما نفذ اتحاد الشغل الإضراب العام الذي أوحى بقوة احتماله وصاحب هذا الإضراب إضرابات قطاعية وجهوية مع احتمال تغذية الحركات الاحتجاجية الشبابية بصفة مبكرة..
اليوم هذا هو الخطر الأكبر على حكومة الشاهد ولذا تراها تخطب ودّ الاتحاد وتريد أن تطبع علاقتها معه ولكن الطرف النقابي مازال مصرا على ضرورة رحيل الحكومة ولكنه مدرك اليوم أن موازين القوى الحالية داخل البرلمان لا تسمح بذلك إلا متى تمّ «إقناع» حركة النهضة بالتخلي عن الشاهد ولكن علاقة المنظمة الشغيلة بالحركة الإسلامية ليست في أفضل حال ويستبعد الآن بصفة كبيرة حصول ما يشبه التحالف بين الاتحاد والنهضة لإزاحة الشاهد ..وتدرك القيادة النقابية أيضا أن مصلحتها ومصلحة البلاد تكمن في اجتناب تصادم قوي مع السلطة التنفيذية إذا ما انفلتت الاضرابات والاحتجاجات الاجتماعية عن السيطرة ..
ثم إن كل الأطراف الفاعلة اليوم على الساحة السياسية والاجتماعية تنظر باهتمام كبير إلى مآل عملية كسر العظام داخل النداء وهل ستفقد كتلة هذا الحزب دورها المحوري داخل مجلس نواب الشعب لتصبح كتلة معارضة للحكومة وللائتلاف الحاكم الجديد بكتلتيه النهضة والائتلاف الوطني ؟
الجديد في مجلس نواب الشعب حتى قبل بداية هذه السنة البرلمانية الاخيرة في هذه العهدة الانتخابية ان كتلة النداء حتى إن التحق بها نواب مشروع تونس لم تعد ضرورية لتمرير القوانين العادية وحتى الأساسية وحده التصويت على اعضاء الهيئات الدستورية يستدعي تشريك كتلة النداء..
انه تحول مذهل في المشهد البرلماني التونسي إذ قد يصبح ما بقي من الحزب الفائز في انتخابات 2014 كتلة معارضة لا قدرة لها على التأثير الفعلي على سير عمل البرلمان ..
ولكن يخطئ من يعتقد أن تكوين كتلة نيابية من أشلاء كتل أخرى سيضمن الفوز في الاستحقاق النيابي القادم ويبدو أن هذا ما دفع يوسف الشاهد ورفاقه إلى اختيار خوض معركة الانتخابات القادمة تحت يافطة جديدة هدفها ربح معركة الوسط .. وهذا هو كذلك نفس هدف القيادة الحالية للنداء التي تلعب حياتها السياسية بعد سنة ..
في الوسط هنالك قوى أخرى تطمح للاستفادة من صراع الأخوين العدوين وهنا نتحدث عن طيف واسع من الأحزاب أشهرها آفاق والمشروع والجمهوري والمسار والبديل والحركة الديمقراطية والمبادرة والحزب الدستوري الحر فضلا عن المنافسة المنتظرة لعدة قائمات مستقلة تتموقع هي الأخرى في هذا الوسط السياسي .. ولكن السؤال الهام هو من استعد بصفة جدية للانتخابات التشريعية القادمة ؟ وهل تكفي أشهر قليلة للتعويض عن خيبات أمل متكررة منذ أول انتخابات بعد الثورة ؟الأكيد أن هذه المعركة لم تبح بعد بكل أسرارها والمجهول الأكبر هو هل سيتمكن الإخوة الأعداء في النداء من احتلال جل هذا الفضاء السياسي أم أن الصراع بينهما سينهكهما الاثنين معا وسيسمح ببروز تشكيلات جديدة قد يكون بعضها حزبيا وجلها مستقلا ..؟
هذا هو احد أهم الأسئلة السياسية لهذه السنة .