بالهوية العربية الإسلامية وقاد حملاته الانتخابية في الداخل معتمدا على ورقة «الدفاع عن الإسلام». ولكن ما هو غير متوقّع أن يبرّر رفض مبادرة المساواة في المواريث بأنّها متعارضة أوّلا :مع الدستور وثانيا :مع الشريعة. فقد أكّد عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس شورى النهضة «رفض الحركة لأيّ مشروع يتنافى مع الدستور ومع النصوص القطعية للقرآن الكريم» مضيفا «نحن دولة مدنية لشعب مسلم.. وتحترم إرادة هذا الشعب.. وإرادته التمسك بقيم الإسلام وتعاليمه». ويثير خطاب مجلس الشورى مجموعة من الإشكاليات منها أوّلا: وجود مأزق فكريّ وفراغ معرفيّ على مستوى تطوير الاجتهاد الفقهي وتجديد القراءات الدينية. فباستثناء «اجتهادات» المنظر الأول «الغنوشي» تفتقر الحركة إلى أصوات قادرة على «إنتاج المعرفة» والقيام بالمراجعات على غرار ما حدث في حركات إسلامية أخرى إخوانية أو سلفية. فمن السهل التذرّع بمخالفة مبادرة المساواة للشريعة ومن الصعب إيجاد مبررات مقنعة لأبناء القرن 21 الذين يؤمنون بإسلام عادل يجعل الجميع كأسنان المشط. وهذا العجز على مستوى تطوير التشريعات من داخل المنظومة الدينية ودخول الحوار من موقع فكري جعل طرح المساواة في الإرث سياسيا بامتياز وبراغماتيا حتى وإن أظهر الرافضون اللبوس الديني. وما بُني على السياسة قابل للتضحية به متى تغير السياق وموازين القوى.
أمّا المشكل الثاني فيكمن في خروج الحزب من حالة تميّزت بانسجام الخطابات ووحدة المواقف إلى حالة تشظي الخطابات ، وتناقضها بل تهافتها. فما معنى اتخاذ البعض موقفا إيجابيا من المثلية واعتبار البعض الآخر أن المثلية تهدّد استقرار المجتمع، وهي مرفوضة في مجتمع مسلم؟ وما معنى الدفاع عن مجلة الأحوال الشخصية والتنكر لفلسفتها ولمسارها التطوري؟ وما معنى دعم مسار تطوير المجلة ووضع شروط تحول دون القضاء على التمييز ضدّ النساء؟ وما معنى «التعارض مع القطعيات» والحال أنّ التشريعات التونسية لا تستند، في معظمها إلى النصوص الدينية فالشريعة ليست مصدرا للتشريع وقد وافقت النهضة على ذلك في دستور2014؟ ثمّ لم الركون إلى حجّة النصوص القطعية الدلالة والحال أنّ الدلالات تخضع للسياقات وتتغيّر وفق الزمان والمكان فما كان ينظر إليه على أساس أنه قطعي الدلالة بات قابلا للتغيير (انظر مقالنا ).
ويتمثّل الإشكال الثالث في ادّعاء القيادات تمثيل الشعب التونسي المسلم والمتمسك بهويته والنطق نيابة عنه والتذرع بالتعبير عن إرادته. فهل يعني ذلك أنّ النهضة باتت وصية على التونسيين وأنّها صارت الناطقة الرسمية عن الشعب؟ ولكن أيّ شعب؟ ولا يخفى أنّ النطق نيابة عن الله وتأويل نصوصه لا يقلّ خطورة عن النطق نيابة عن التونسيين.
أمّا الإشكال الرابع فيتعلق بالنساء. يجد الحزب حرجا في التعامل مع «المسالة النسائية» وهو الذي راهن على إبراز نساء الحركة في صورة جديدة ومن موقع ريادي يتباهى به أمام الخصوم ويستغل هذه الورقة للدفاع عن نفسه أمام الغرب. ولكن كيف نفهم «التزام الحركة بتطوير حقوق المرأة والرفع من منزلتها في القانون والواقع، والتمسك بقيم العدل والانصاف» والحال أنّ الحزب يحدّ من هذه الحقوق ؟ وما معنى العدل؟ وما معنى الإنصاف؟ وهنا تبدأ لعبة التأويل فما تفهمه الحركة غير ما تفهمه الحركة النسوية والحركة الحقوقية وغيرها من التيارات. وبالإضافة إلى قضية التأويل تطرح حقوق النساء إشكالية أخرى تتعلق بوضع النهضاويات. إنّ مجلس الشورى الذي لم يمنح النساء تمثيلية مشرّفة هو الذي يقرّر مصير ما تريده النساء نيابة عنهن، وهنا لا نخال الحزب متجاهلا المأزق فأن يقرّر رجال الحركة ما هي المساواة؟ وما العدل في الأسهم؟ يجعل حقوق النساء شأنا يبت فيه الذكور حتى وإن حضرت النساء فإنّهن، في الغالب، تابعات ومؤيدات لسياسة الحزب فإن انفتح رحبنّ وإن انغلق دافعن فهنّ اليوم مستمتعات بالسلطة وغدا شأن آخر...
لا خيار أمام الحزب إلا المراوغة والتوظيف والتلاعب بورقة حقوق النساء وورقة الدفاع عن الإسلام الذي يبدو في خطر مستمر. وبذلك تظهر النهضة في صورة حامي النساء المسلمات وحامي الإسلام .فكيف يمكن اتخاذ مواقف جريئة والمعركة الانتخابية على الأبواب وهي معركة تقاد عبر التجييش في ظل غياب البرامج؟ وكيف يمكن تثوير المرجعيات والنزاع على السلطة بدا جليا داخل الحزب؟ وكيف يمكن دعم المساواة وامتيازات الرجال تتقلص، وهم الذين يعوّل عليهم في الدعوي السياسي وفي التعبئة؟
لا خيار أمام النهضة إلا اللعب بالفعل التأويلي: فإذا أعوزها تأويل النصوص الدينية فإنّ تأويل مجلة الأحوال الشخصية والدستور ممكن ومتيسّر وهنا تنطلق معركة جديدة....