وبغض النظر عن القراءات السياسية والتقنوية لهذا الحدث فإننا نجد أنفسنا أمام معضلة كبرى تفيد كل المؤشرات بتكرار حدوثها في المستقبل وهي الصعوبات المتزايدة التي تجدها الدولة لخلاص جرايات متقاعدي القطاع العام، فنحن لم نعد فقط أمام حالة عجز هيكلي للصناديق الاجتماعية بل أمام عجز واضح للمالية العمومية عن تغطية هذا العجز بصفة مرضية. وقبل ذلك كنا أمام أزمة فقدان بعض الأدوية الحيوية بحكم عجز الصيدلية المركزية، كما يواجه التونسيون وزوار البلاد تكرار حالات تأخر الرحلات الجوية بحكم عجز الناقلة الوطنية عن تجديد أسطولها..
ويمكن أن نعدّد الأمثلة كالتراجع المستمر لمنظومتنا التربوية وتدهور ميزاننا التجاري رغم التحسن الطفيف في نسبة التغطية وتراجع قيمة الدينار الذي فقد مع الدولار أكثر من 10 ٪ من قيمته منذ بداية السنة إلخ ... وهذه كلها حالات لا رابط مباشر بينها ولكنها تدلّ كلها على فاتورة عدم اصلاح مختلف منظوماتنا الاقتصادية والاجتماعية.
يكفي أن نأخذ مثالا واحدا لكي نرى من خلاله أن ثمن اللإصلاح هو أكبر بكثير من الربح الظاهر والقصير في استمرار الحال على ما هو عليه.
لننطلق من التأخير الذي يشمل نصف الرحلات التي تؤمنها الناقلة الوطنية فسنجد أن الأسباب الكامنة وراء ذلك هي شيخوخة الأسطول وصعوبة الحصول على قطع الغيار نظرا لمطالبة مزودي الخطوط الجوية بالخلاص القبلي نتيجة ضعف ثقتهم في البلاد بصفة عامة وسنجد أيضا أن سياسة الادماج التي حصلت بعد الثورة أثقلت هذه المؤسسة الوطنية وجعلت كتلة الأجور فيها لا تطاق فلم تستثمر في تجديد الأسطول، ولو وسعنا النظر لاكتشفنا أيضا عجز مطار تونس قرطاج عن تلبية مطالب الذروة في عدد الرحلات وخاصة في هذه الصائفة مع تظافر سفرات السياح ذهابا وايابا ومواطنينا بالخارج والحجيج.. أي أن عدم اقدام السلط العمومية على اصلاح فعلي لهذه المؤسسة جعل ديونها تتراكم وعجزها يتفاقم وصورتها تتدهور كما أن عدم استباق أشغال البنيةالتحتية الضرورية لتأمين انسياب تدفق المسافرين ذهابا وايابا يجعل البلاد غير قادرة على استيعاب كل طلبات المجيء إليها.. وهذا كله دون الحديث عن التحدي الكبير الذي ستمثله اتفاقية السماء المفتوحة للناقلة الوطنية لو بقيت على هذه الحالة.
الحلّ، نظريا، واضح للغاية: اخضاع هذه المؤسسة العمومية للمعايير العقلانية الدنيا في مستوى الزاد البشري والخدمات المسداة والقيام بالاستثمارات الضرورية لتجديد الأسطول ولكل ما من شأنه أن يجعلها قادرة اليوم وغدا على منافسة كل شركات الطيران على الأسواق التقليدية لناقلتنا الوطنية ولِمَ لا للاستفادة من امكانية غزو أسواق جديدة..
لماذا لم نقم بهذه الاصلاحات على مستوى هذه المؤسسة بالذات؟
الجواب واضح: خوف وارتباك الحكام وتفضيلهم الصلح الآني مع الطرف الاجتماعي على المصالح الاستراتيجية للناقلة الوطنية، فتتعاقب الحكومات وتبقى الحالة على ما هي عليه، لا ، بل تزداد سوءا وتتفاقم فاتورة الاصلاح بشكل يزيد في خوف الحكام وترددهم فينصرفون الى ملفات أخرى تماما كرجال المطافئ الذين يكتفون بالتدخل الآني لاطفاء حريق ما ثم ينتقلون الى سواه دون أن يكون من مهامهم إصلاح ما أتلفته النيران...
وعندما نتحدث عن الاصلاح يذهب في ذهن البعض أن الأمر يتعلق فقط بمنظومات التقاعد والدعم والمؤسسات العمومية، أي كل ما له تأثير مباشر على التوازنات المالية للدولة.. الاصلاح الذي تتطلبه تونس أعمق وأشمل من ذلك بكثير، انه اصلاح لكل المنظومات الحالية بالاعتماد على مبدإ بسيط: العقلانية في كل شيء، والعقلانية تتجلى في النجاعة والمردودية والجودة وتناسب الجهد، المادي والمعنوي، مع المردود العاجل والآجل كذلك. فالطريق السيارة التي نقرر احداثها اليوم سننجزها بعد 4 أو 5 سنوات وسيتضح مردودها ويكتمل بعد 10 أو 15 سنة ولكن لو لم ننطلق الآن لما تمكنا من حصد المردود بعد 15 سنة.
كما ان اصلاحا جذريا لمنظومتنا التربوية لن يؤتي أكله قبل عقدين من الزمن، ولكن عدم الاقدام عليه اليوم وبكل جدّ هو جريمة في حق البلاد وأجيالها القادمة وستكون كلفة عدم الاصلاح ضخمة للغاية ماديا وأدبيا وبشريا.
لا وجود لاصلاح سهل ولا وجود لاصلاح يجمع عليه كل الأطراف، فكل اصلاح ينتج حتما خاسرين بداية ورابحين في ما بعد، والخاسرون يعلمون جيدا ماذا سيخسرون بينما لن يقتنع الرابحون بربحهم الا متى حصل وتأكد ودام ولهذا يكون أعداء الاصلاح كثرا وأنصاره الفعليون في البداية قليل عددهم.
وما نستخلصه من تجربة هذه السنوات الثماني هو أن الحكومة الضعيفة غير قادرة على الاصلاح مهما حسنت النوايا، فالاصلاح يحتاج الى حكومات قوية قادرة على انفاذ برامج سبق لها أن وعدت بها ابان الحملات الانتخابية، حكومات يعطيها الصندوق شرعية الاقدام على الاصلاح.
ولكن ينبغي أن نقر بأن لدينا في تونس عدوا عتيدا وعنيدا لكل اصلاح وهو الوهم الاديولوجي سواء كان ليبيراليا أو اجتماعيا اشتراكيا..
تونس تحتاج للعقلانية في كل شيء والعقلانية تقتضي أن تساس كل المؤسسات العمومية وفق مبدإ النجاعة والفاعلية والتناسب بين الانفاق والمردود، تماما كما يحصل ذلك داخل محرك سيارة يشتغل بأقصى قوة، لا ينبغي أن تتحول الدولة الى «تكية» توزع أرباحا غير موجودة وثروة غير مخلوقة على أناس لا يعلمون ولا يكدون ولا يجتهدون، ولكن في نفس الوقت من واجب الدولة وسائر قوى المجتمع ان توفر سبل النجاح والتفوق والرفاه في كل شبر من البلاد فرفاه البعض لا معنى له وهو رفاه زائف وزائل ما لم يكن رفاهية يتقاسمها كل الناس ولو بدرجات متفاوتة..
ما تحتاجه تونس ليس توفيقا بين اليمين الليبيرالي واليسار الاجتماعي، بل نحتاج الى هبّة أخلاقية تجعل من العمل أقدس المقدسات ومن العقلانية مبدأ للتصرف والمحاسبة في نفس الوقت ومن التضامن خيارا مجتمعيا وإطارا كذلك لخلق الثروة والتفوق والامتياز لكل بنات وأبناء تونس.
لنكن نزهاء مع أنفسنا: لن يحصل إصلاح جدي عميق في تونس قبل العهدة الانتخابية القادمة أي بداية من سنة 2020، وهذا لا يعني بالطبع استحالة القيام باصلاحات جزئية خلال هذه السنة ونيف القادمة ولكن ما نخشاه هو ألا يكون الاصلاح في لبّ النقاش الديمقراطي خلال الحملات الانتخابية التشريعية والرئاسية المقبلة وألا يتم اختيار الناخبين للبرامج الأكثر فاعلية
وجدية وللقيادات ذات المصداقية والقدرة على التطبيق، ما نخشاه هو أن نخسر الخماسية القادمة بعدما خسرنا هذه العهدة الانتخابية الحالية.