،بفتح باب النقاش حول ما أثاره تقرير المساواة والحريات من ردود فعل متفاوتة. فالنقاش حول هذه المسائل يتنزّل في إطار الشأن السياسي ويعدّ محرارا لمعرفة نضج الأحزاب وقدرة قياداتها على التفاعل مع المطروح اجتماعيا وسياسيا والتواصل مع مختلف المساندين أو الرافضين من موقع امتلاك المعرفة أوّلا، والقدرة على التفاوض ثانيا، والاستعداد للتزحزح عن بعض المواقف المعلنة ثالثا. ولكن تأخّر تفاعل أغلب الأحزاب بما في ذلك الأحزاب الحاكمة، مع ما تضمّنه تقرير المساواة والحريات من مقترحات. ومبرّر ذلك «الصمت» أو «التخفّي» أو «المراوغة» والحرج الذي تشعر به القيادات السياسية في التصريح بموقفها بكلّ نزاهة لاسيما وأنّ اتّخاذ قرار دعم المقترحات من عدمه، له صلة متينة بالعمليّة الانتخابية. فالبعض يريد تجنّب وسائل الإعلام، والبعض الآخر يتعلّل بضرورة انعقاد الاجتماعات بين أنصار الحزب أوّلا ثمّ الإعلان عن الموقف في مرحلة لاحقة والبعض الآخر يفضّل الانتظار والتأمّل في موازين القوى .
ويشعر أغلبهم بأنّ ما ورد في التقرير من مواد يضعهم في ورطة يصعب الخروج منها . فإذا قدّمت بعض الأحزاب نفسها على أساس أنّها «تقدمية» و»حداثية» وملتزمة بالدفاع عن الحريات والحقوق وتراهن على المناصرة النسائية فإنّها وجدت صعوبة في الحسم. فهل تنتصر للرجال أم للنساء؟ وهل تؤازر الحريات والمساواة، والحال أنّ بعض القيادات والأنصار يهدّدون بالانسحاب من الحزب متى ساند حقوق «النسوان» و«الغلمان». خياران أحلاهما مرّ ونحن على أبواب التموقع الانتخابي. ولئن ظهرت البيانات المساندة (حزب المسار والجبهة الشعبيّة...) والمواقف الرسمية المعلنة عن الموقف المبدئي( حزب التيار الديمقراطي) فإنّ موقف حزب حراك تونس خرج عن قاعدة الحسم إمّا المساندة أو الرفض ليكون في منزلة بَينية ظاهرها وقوفه إلى جانب الحريات، حتى لا يخسر زعيمه صفته الحقوقية ورصيده النضالي التاريخي، وباطنها رغبته في تصفية حسابات سياسية ضيّقة على حساب حقوق الناس ومن كانت هذه صفته هل يعوّل عليه في معركة تخاض من أجل إصلاح المنظومة التشريعية وجعلها منسجمة مع ما جاء في الدستور؟.
تقرير المساواة والحريات بقطع النظر عمّا ورد فيه من مقترحات، وضع مختلف الأحزاب الحاكمة والمعارضة أمام اختبار عسير فقد فضح سلوك أغلب قيادات الأحزاب والنواب وغيرهم، وعرّى أيضا الازدواجية التي لم تعد سمة تميّز الفاعلين في حزب النهضة مثلما يروّج لذلك، بل هي صفة ملازمة لعدد من القيادات وتبدو جليّة في تصريحات عدد من الفاعلين السياسيين. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ فقد تسبّب تقرير المساواة والحريات في مأزق آخر إذ أبان عن علل أخرى لدى الطبقة السياسية منها محدودية التجربة والثقافة العامة والسياسية لدى أغلب ممثلي النخب السياسية ، ومنها عسر تقدير بعضهم للأمور، ومنها البراغماتية الصرفة التي تجعل بعضهم يفضّل اقتناص الفرص حتى وإن كان ذلك على حساب المبادئ ، ومنها أيضا أشكال تلقّي التقرير التي تبدو في الغالب، دون المستوى المطلوب.
والظاهر أنّ بعض الأحزاب أدركت أنّه لا مناص من خوض غمار الحوار المجتمعي. فهل سنتابع مناظرات ونقاشا ثريّا ورصينا يُحدث ديناميكية ويفتح مجالات أخرى لتطوير الحياة السياسية والثقافية أم أنّ هذه النقاشات ستتحوّل إلى مناسبة لتبادل العنف، وتصفية الحسابات السياسية وفضح «المستور» من خواء فكريّ وتناقض وعجز عن الاستدلال...؟
وفي كل الحالات نعتقد أنّ مسار الحريات والنضال من أجل تحقيق المساواة والعدالة والكرامة كان ولا يزال مسارا معقّدا وطويلا وشاقا ويتطلّب تضافر جهود الجميع من أجل تقديم صورة أفضل عن قدرة التونسيين على تجاوز الخلافات وإدارة الأزمات وتحقيق بعض المكاسب لفئات عاشت القهر والظلم والغبن ومن حقّها اليوم أن تستمتع بالعيش الكريم وبالمواطنية الكاملة.