بعد الإطلاق الرسمي للمبادرة الرئاسية في المساواة القانونية في الميراث: الكرة في ملعب النخب السياسية والفكرية

يوم 13 أوت 2018 حسم الجدل بشأن النتائج التشريعية والسياسية والحضارية لتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة إذ

انتقلنا بموجب خطاب رئيس الجمهورية من جملة أفكار ومقترحات تضمنها التقرير إلى العزم على القيام بمبادرة تشريعية تقترحها رئاسة الجمهورية للتنصيص ، قانونا ، على المساواة في الميراث بين النساء والرجال بحسب درجات قرابتهم من المورّث مع إعطاء هذا الأخير في قائم حياته الحق في التنصيص على تمسكه بقسمة تركته وفق القانون الحالي قبل تنقيحه .

ويحق لكل واحد منا أن يقرأ المبادرة الرئاسية كما يحلو له ولكن المبادرة موجودة وستتحول سريعا إلى مشروع قانون يقدم إلى مجلس نواب الشعب، اثر العودة من العطلة البرلمانية ، واليوم كل حزب وكل تيار وكل فرد مطالب بتحديد موقفه من هذه المبادرة التشريعية .

كان بالإمكان الالتزام بالصمت عندما كانت المساواة في الميراث مجرد مقترح تقدمت به لجنة الحقوق والحريات ولكن اليوم الوضع مختلف ولا يمكن لأي فصيل فكري أو سياسي أن يكون غير معني بتشريع يهم حياة كل عائلة تونسية مهما كثرت أو قلت ممتلكاتها ..

في السياسة الموقف المريح هو أن توافق أصدقاءك وتعارض خصومك.. فهذه هي الممارسة السياسية العادية ولا شجاعة فيها ولا ابتكار ، ولكننا نحدس أن أطرافا عديدة من الموالاة والمعارضة ستكون محرجة إما لأنها لا تريد إهداء انتصار معنوي لرئيس الجمهورية أو لأنها لا تشاركه هذا الموقف بالذات ولكنها لا تريد الظهور في موقف المعارض لصاحب قرطاج.

يظن الكثيرون أن حركة النهضة هي المعنية أكثر من غيرها بتوضيح موقفها وأنها هي التي قد تدفع الثمن الأكبر إن وافقت أو عارضت .

وفي الحقيقة ينبغي النظر لهذه المسألة من زاوية أكثر دقة : هل تخلصت حركة النهضة من أوهام الإسلام السياسي كلها أم لا ؟ هل مازالت تؤمن بالإسلام كايديولوجيا مناضلة أم لا ؟ وهل مازالت ترى فيه «نظاما شاملا للحياة» أم أنها فعلا تتونست أي أخرجت الدين من مربع الايديولوجيا الشمولية لكل تيارات الإسلام السياسي !

الواضح أن جل قيادات الحركة الإسلامية هم في منزلة بين المنزلتين فلا هم من أنصار تطبيق الشريعة بصفة فورية ولا هم من المطمئنين إلى الفصل الواضح والصريح بين الدين والدولة فهم يعتقدون وان لديهم تأويلا دينيا لا يخرجهم من بوتقة «الإسلام دين ودولة» ولا يضعهم بالكلية في المنظومة الاخوانية الكلاسيكية وأكثرهم جرأة وجسارة فكرية يرنو إلى أن يكون محافظا ليس إلا ..

والواضح أن إجبارهم على إبداء الرأي في مسالة المساواة في الميراث يزعجهم إلى ابعد حد وذلك لان لا حجة متناسفة لديهم لا في الرفض ولا في القبول ، فإن هم رفضوا المساواة بتعلة مخالفتها لصريح القران فكيف يفسرون صمتهم بل قبولهم بعدة قوانين جزائية ومدنية تخالف صريح النص القراني بوضوح اكبر من الآية الكريمة «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» وان هم قبلوا بالمساواة فسيقول لهم من يتربص بهم على يمينهم : لقد خنتم الله ورسوله وتنكرتم بهم لكل مبادئكم. فحركة النهضة في وضعية مأساوية ، وهذه الوضعية ستتكرر كلما تعلق الأمر بحقوق أو حريات قد يتعارض مضمونها مع منطوق النص الديني.

فالحداثة الفكرية مسار طويل وقلق وأكثر النهضويين انفتاحا اليوم مازالوا يتحسسون بداية الطريق وباطمئنان مغشوش لأن القوة الظاهرة لا تعوض مطلقا قوة القناعات الدفينة.. ولكن حركة النهضة ليست وحدها في هذه الوضعية فجل مكونات المشهد السياسي داخل البرلمان وخارجه أمام اختبار الحقيقة : هل هي فعلا مع المساواة والحريات الفردية أم أن جلّ شعاراتهم الجميلة لا تصمد أمام اختبار الحقيقة .. وهذا يصح على مختلف التيارات القومية وبعض الحركات الأخرى التي تنهل من ينابيع شتى كالحراك والتيار الديمقراطي وبعض مكونات الجبهة الشعبية ، وسوف نرى ان بعضهم سيسعى إلى تسييس مفرط للقضية حتى يحولها من الموقف من المساواة بصفة عامة ومن الميراث بصفة خاصة إلى الموقف من الباجي قائد السبسي حتى يسهل ذلك الربط السحري : ما دمنا ضد الباجي قائد السبسي إذن نحن ضد كل المبادرات الصادرة عنه باعتبارها مناورات سياسية ليس إلا ..ترى هل هنالك مبادرة سياسية واحدة خالية تماما من المناورة ومن حسابات الربح والخسارة ؟ وهل ان قيادات هذه التيارات ملائكة لا يناورون ولا «يتكتكون» ولا «يكمبنون» ؟

ثم سوف نستمع كثيرا إلى أغنية «موش وقتو» «وهنالك أولويات أخرى» «وهذه ليست أولوية التونسيين».. لنكن نزهاء، لحظة واحدة هل أن إرساء المحكمة الدستورية، مثلا، هو اليوم أولوية الأولويات بالنسبة للتونسيين؟ فهل يعني هذا التخلي عنها؟ وهل يجب أن نقصر اهتمامنا فقط على البطالة والأكل والشرب والمرافق الحيوية؟ عندما نقيم سلما هرميا من القيم ألا يعني ذلك أننا نستعد للانقضاض عليها كلها الواحدة بعد الأخرى؟

ثم أين هو حزب رئيس الدولة في كل هذا الجدل الفكري والحضاري ؟ نحن لم نسمع بعد رأيا واحدا نابعا من قيادات هذا الحزب .. نعلم جميعا أن هذا الحزب ينهل من فكر وتجربة الزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة وبالنسبة لهؤلاء المساواة في الميراث استكمال طبيعي للمنهج البورقيبي الإصلاحي ولكن أين هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم قادة للحزب الفائز في 2014 ؟ أين دفاعهم عن الحريات والمساواة وأين تصديهم لحملة التشويه والتكفير التي طالت لجنة الحريات الفردية والمساواة وبخاصة رئيستها الأستاذة بشرى بلحاج حميدة ؟ هل سينخرط كل النواب الندائيين في الدفاع عن المبادرة الرئاسية ؟ قد يفعل بعضهم ذلك من باب «السمع والطاعة» ولكن البلاد تحتاج الى من يدافع عن قيم التقدم والحداثة بقناعة وإيمان عميقين سواء وافق هذا هوى أهل السلطة أو خالفه .

الايجابي في المبادرة الرئاسية لا يكمن فقط في دفعها بمسار المساواة إلى الأمام ولكن أيضا في مساعدتنا على معرفة المعادن الحقيقية لكل الأحزاب والتيارات الفكرية والشخصيات العامة، فالناس معادن، كما قال الرسول: «خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام»..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115