كانوا يضربون ستارة بينهم والندماء، وأنّ نساء السلاطين كنّ صاحبات نفوذ يحكمن بأحكامهن من وراء الستارة، وكان بعض الساسة يضعون بينهم والشعب ستارة تحجب عنهم ما يدور في الواقع من مآسي ويتركون لعمّالهم إدارة شؤون العوام مكتفين بالفرجة بين الحين والآخر مفضّلين الاستمتاع بملذات الحياة. وما الإصرار على تعيين أبناء الخلفاء القصّر على رأس الدولة إلاّ حجة على رغبة عدد من أصحاب النفوذ في ممارسة السلطة من وراء ستارة.
ولم يتوقّف استعمال الستارة في التجارب السياسية المعاصرة إذ كثيرا ما حوّل الحاكم المستبد الشعارات السياسية إلى ستارة تمنع «الغرب» من تبيّن الممارسات الدكتاتورية، وارتأى بعضهم تعديل القوانين و«عصرنتها» حتى تكون بمثابة ستارة تحجب عن الآخرين انتهاكات حقوق الإنسان.ولئن خبرنا في تونس تجارب مختلفة دالة على تدخّل أصحاب النفوذ والسلط (من الداخل والخارج) في السياسات العامة، وتمكّنهم من الحكم وتشكيل الرأي العامّ من خلف الستائر فإنّ تجربة حزب النهضة في الحكم من وراء الستار مثيرة للانتباه فشتّان بين سنوات الحكم و«اللعب على المكشوف» وسنوات التخفّي والاستمتاع بالسلطة خلف الستائر. ويبدو أنّ مهندسي توجهات الحزب قد أدركوا الفرق بين أن يكون حزب النهضة مباشرا للحكم مسؤولا عن الفشل أو الخطأ أو سوء التقدير وأن يكون بعيدا عن واجهة الحكم المباشر. ولا نخال أنّ هؤلاء «المنظرين» قد تجاهلوا الدرس المفيد الذي خرجوا به من تجربة «الترويكا» فالفرق واضح بين أن تكون في المركز وفي بؤرة التحديق وفي مرمى السهام تنتقدك الجموع فتتعرّى، والعري منبوذ في ثقافة محافظة تؤثر الحجب، وأن تكون بعيدا «عن الأضواء» لا تتحمّل وزر ما يحدث ولا تخضع للمساءلة والمحاسبة، أي مستورا والستر مطلوب في الثقافة العربية الإسلامية.
إنّ تموقع حزب النهضة الجديد «من وراء الستار» قد وفّر له «الأمن والأمان» نسبيّا فما عاد بأنظار المراقبين الدوليين المسؤول الأوّل عن الانزياح عن مسار التحول الديمقراطي وما عاد ملوما عن تصريحات أتباعه بل على العكس من ذلك صار قوّة رادعة وحزبا «قويا متماسكا» يُتفاوض معه لحلّ الأزمات لاسيما بعد أن أمسك بخيوط اللعبة من وراء الستارة وفهم شروط التواصل ومتطلبات التفاوض. وهكذا تغيرت صورة حزب النهضة فصار لدى العديدين حزب «العقلاء» وأصحاب الرؤية السياسية الواضحة في مقابل حزب النداء حزب «المجانين» وغير الراشدين والغيورين على مصالحهم والعابثين بمصائر الناس.
وتتجلّى فضائل الحكم من خلف الستارة لا في تغيير مقومات بناء صورة الحزب فقط بل في كسب الأنصار الجدد بقطع النظر عن أسباب هذا الانتماء، وقد لاحظنا ذلك في الانتخابات البلدية الأخيرة فكم من مرشحة مدحت «الحزب الإسلامي الديمقراطي» ودعمه للنساء. وعلاوة على ما سبق تبيّن لنا خلال هذه الأيام أنّه كلّما اشتدت الأزمات وتعقدت صار «الآخر» الخصم السياسي في دائرة الاتهامات تكال له أسوء النعوت وصار حزب النهضة على الأقل، ليس «الخصم الرئيس» وممثّل كلّ الشرور والمتسبّب في كلّ المصائب، وهو أمر نقدّر انعكاساته على المسار الانتخابي المقبل.
للستائر فضل على حزب النهضة فهي تحجب عن العموم العيوب والنواقص وما يجري في الكواليس، وتحمي «الأهل» من كشف الأسرار. ولمّا كان من دلالات الستائر حسب «ابن سيرين» وغيره من مفسّري الأحلام ،الخير القادم والبركة فإنّ المتوقع من أداء حزب النهضة في القادم من الأيام «الزيادة في السلطة و الرزق والستر» .ولكن ما دامت الحياة السياسية اليوم تشكو من انسداد الأفق وتعاني من استمرار السقوط الأخلاقي وضعف الأحزاب التي بإمكانها أن تمثّل البديل فإنّنا نقدّر أنّ حزب النهضة مجبر على الظهور على الركح السياسي في موقع ممارسة السلطة المباشرة، وهو مكره على التخلّي عن تموقعه «المريح» من خلف الستارة.
وبين الكشف والستر مسافة تغيّر قواعد المعادلة السياسية وتقلب أسس التأويل فمن دلالات رفع الستارة «المتاعب والمشاكل وبروز المكائد» لاسيما إذا كانت الستائر زرقاء اللون ممزوجة بالأحمر، ومن آيات التخلّي عن الستائر «تفشّي سرّ من الأسرار» و«مواجهة المصاعب». «ولله أعلم’’.