للغاية كالذي حصل في عقد الكرامة إذ خصصت الدولة 25.000 ألف موطن شغل موزعة بالتوازي بين كل ولايات الجمهورية وتم اعتبار أن تحصيل نفس فرص الشغل لولايات ساحلية ذات كثافة سكانية عالية مقارنة بالولايات الداخلية وخاصة الجنوبية ذات الكثافة الأقل إنما هو تمييز ايجابي لهذه الأخيرة ..
ولكن إلى حد الآن لم تعتمد الحكومات المتعاقبة سياسة عمومية واحدة فيها تمييز ايجابي واضح يغير من المعطيات الرمزية والمادية لمواطنينا وخاصة لشبابنا ..
منذ أشهر قليلة أعلن رئيس الحكومة أمام مجلس نواب الشعب عن تبني حكومته لفكرة التمييز الايجابي في التوجيه الجامعي نحو الشعب النبيلة ولكن تزامن هذا الإعلان مع الأزمة السياسية في البلاد جعل هذا المقترح يمر مرور الكرام دون إثارة الاهتمام اللازم به..
واليوم وفق ما بلغ إلى علمنا ستقدّم الحكومة مشروعا للتمييز الإيجابي في التوجيه الجامعي يبدأ مفعوله مع السنة الجامعية 2018 - 2019.
لاشك أن فكرة التمييز الايجابي إشكالية في حد ذاتها وتلقى معارضات شتى باسم مبدإ المساواة بين المواطنين الذي تخرقه السياسات التمييزية الايجابية ولكن وكما أوضحنا ذلك في مناسبات عدة وحدها سياسات التمييز الايجابي قادرة على معالجة التفاوت الجهوي أو العرقي أو الطبقي المتفاقم جيلا بعد جيل ومن يريد نموذجا تطبيقيا على ذلك عليه أن يرى اليوم وضع الأمريكان من أصول افريقية وكيف تمكنت دولة ليبرالية من تطبيق سياسات عمومية مؤثرة غيرت المعطيات السوسيولوجية بصفة جذرية على امتداد جيلين فقط .. صحيح ان معدل المستوى الاجتماعي للسود في أمريكا مازال منخفضا بالنسبة للأمريكان من أصول انغلو سكسونية ولكن كم هي ضخمة القفزة النوعية لهذه الاقلية منذ ستينات القرن الماضي حيث كانت في ولايات عدة في وضع ميز عنصري واليوم أصبحت لديها نخب فاعلة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعلميا بعد ان كاد يقتصر وجودها في منتصف القرن الماضي على أصناف من الرياضة والموسيقى فقط لا غير ..
مبدإ التمييز الايجابي قائم على فكرة بسيطة : ان التعامل المتساوي مع أناس غير متساوين إنما يعمق اللامساواة ولا يخفض منها فما بالك عندما يكون التعامل لا متساويا (سلبيا) مع أناس لا متساوين كما هو الحال في بلادنا منذ عقود طويلة لكي نقف فقط على فترة دولة الاستقلال ..
هنالك فكرة بسيطة دافعنا عنها مرارا كثيرة في هذا الركن وتبناها اليوم المشروع الحكومي تقوم على المبدإ التالي : تخصيص كوتا معينة للناجحين في الباكالوريا من أبناء الجهات الداخلية (ولايات الشمال الغربي والوسط الغربي والجنوب غربيه وشرقيه مع إضافة ولاية زغوان ) في الشعب النبيلة ككليات الطب والهندسة والدراسات التجارية العليا ..
هنالك حوالي 5000 مقعد مخصص سنويا لما يسمى بالشعب النبيلة من علوم طبية وهندسية وإنسانية واجتماعية ككليات الطب بتونس والمنستير وسوسة وصفاقس والصيدلة وطب الأسنان بالمنستير مع مختلف المدارس الهندسية وغيرها تعد هي الشعب النبيلة المعدة للمتفوقين في امتحان الباكالوريا ويوجه الناجحون وفق معادلة تأخذ في الاعتبار اعدادهم في الباكالوريا وعلى امتداد السنة الدراسية مع عناصر أخرى كعدم الرسوب الخ .. وعادة ما يكون اخر مقبول في كلية الطب بتونس متحصلا على معدل يفوق 17 من أصل 20 وتثبت كل الدراسات ان نسبة الموجهين لهذه الكلية من ولايات كأريانة مثلا ارفع بكثير من ولايات الوسط الغربي والشمال الغربي والسبب في ذلك يعود إلى نوعية بعض المعاهد في أريانة وبقية الولايات الساحلية والمستوى الاجتماعي والثقافي للأولياء وتوفر الأساتذة المميزين بنسبة اكبر وكذلك الاعتماد الكثيف على الدروس الخصوصية عند أبناء الطبقة الميسورة والطبقات الوسطى كذلك ما يحدث لامساواة هيكلية بين التلاميذ .. وما يمكن قوله هو أن التلميذ المتحصل على معدل 16 من أصل عشرين في بعض الولايات الداخلية لا يقل تميزا بالمرة عمّن يحصل على معدل 18 في هذه الولايات المحظوظة ..
يقوم المشروع الحكومي على توفير حوالي %8 من هذه القاعدة في الشعب النبيلة ( 416 مقعدا) للناجحين من أبناء الجهات الداخلية الذين لم يتمكنوا بالاعتماد على معدلاتهم الأصلية من الالتحاق بهذه الشعب في التوجيه العادي ..
والرسالة هنا واضحة وقوية : عندما يجتهد التلميذ (ة) ويبذل قصارى جهده ويتفوق على أقرانه بإمكانه الالتحاق بهذه الشعب النبيلة اما بالاعتماد على التوجيه العادي او بفضل نظام الكوتا هذا وهذا لن يفيد فقط 416 ناجحا(ة) في الباكالوريا بل سيحدث حركية وتنافسا نحو الأفضل في كل مؤسساتنا التربوية وفي كل مناطق الجمهورية .
والمأمول من نظام الكوتا هذا أن يغير تدريجيا وبصفة جذرية المناخ النفسي للآلاف ثم لعشرات الآلاف من أطفالنا وان يصبح النجاح الاجتماعي مقترنا بالعمل والكد والاجتهاد لا بــ«الحارق» وبوهم الربح السريع ..
يمكن بطبيعة الحال الاعتراض على كل قرار كأن نقول بأن في المناطق الساحلية مناطق أكثر تهميشا من بعض معتمديات الولايات الداخلية، وهذا صحيح ولكن ينبغي أن نبدأ ثمّ نصحّح القرارات متى كان ذلك لازما..
خطوة جبارة في الطريق الصحيح تتطلب خطوات أخرى جريئة وقوية في المجال التربوي كذلك وخاصة في عالم التشغيل ..
اننا بذلك نرعى الحلم والامل ونسهم في بناء مشروع جماعي نتقاسم فيه النجاح والرفاهية