رئيس الجمهورية ..
وللتذكير فإن هذه اللجنة قد تشكلت إبان خطاب رئيس الدولة بمناسبة عيد المرأة في 13 أوت 2017 الذي أشار فيه بوضوح إلى ضرورة أن تتأسس كل منظومتنا القانونية على المساواة بين الجنسين مركزا بالخصوص على المساواة في الميراث ممّا جعل العديدين يختزلون عمل هذه اللجنة في هذه النقطة بالذات ..
والمعلوم أيضا بأن هذه اللجنة قد كلفت بإعداد تقرير يرصد كل مواطن الإخلال بالحريات الفردية التي ضمنها الدستور وكذلك بقايا التمييز القانوني بين الجنسين لتقدم مقترحات عملية يمكن أن تكون منطلقا لمبادرة تشريعية تقدم عليها رئاسة الجمهورية لتنقيح أو تعويض جملة من الفصول في مجلة الأحوال الشخصية والمجلة الجزائية وغيرها من مكونات منظومتنا القانونية ..
وقد أعلنت اللجنة اثر هذا اللقاء بأن تقريرها سينزل كاملا بموقعها الرسمي يوم الثلاثاء 12 جوان حتى يغذي حوارا وطنيا تمنت اللجنة أن يكون معمقا وهادئا ومسؤولا وناجعا .. ولكن هذا التمني قد لا يصمد كثيرا أمام ما يمكن أن تؤول إليه حدة الاصطفاف في قضايا حساسة تلامس مواقع عديدة تعد من التابوات الاجتماعية والدينية في بلادنا ..
لقد فضلت اللجنة عدم تقديم تقريرها في موعده الأول المحدد بأواخر ماي 2018 حتى لا يكون محل تجاذب سياسي ونحن على مشارف الانتخابات البلدية .. ولكن التجاذب السياسي والإيديولوجي لن يغيب في بلادنا ولن تغفر له مرحلة خالية من استحقاق انتخابي مباشر ..
ما نعلمه إجمالا عن هذا التقرير في انتظار توفره للجميع بعد أيام قليلة هو انه تضمن التنصيص على المساواة التامة في الميراث بين الجنسين وإسداء نفس الحقوق للزوجين كما تضمن جملة من الاقتراحات تخص مجالات الحريات الفردية لعل من أكثرها دقة مسألة الاختيارات الجنسية والجندرية كما أن الفلسفة العامة التي قادت أعمال اللجنة طيلة هذه الأشهر هي التأكيد على المساواة بين الجنسين في كل المجالات وعلى ضمان كل الحريات الفردية وفق المعايير الدولية مع اقتراح حلول تدرجية في بعض القضايا الدقيقة للغاية.
المهم في هذه المسألة هو مدى قدرة البلاد على التقدم الملموس في مجال التشريعات لإحلال المساواة التامة والمطلقة بين الجنسين في كل المجالات وكذلك ضمان الحريات الفردية بنص القانون بعد أن ضمنها الدستور في الفصل 21 حيث وضع الإطار العام للمبادرة الرئاسية ولعمل اللجنة «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات «وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم».
سوف نستمع في الأيام القادمة إلى كلام كثير من صنف : إنها مناورة جديدة من رئاسة الجمهورية للتغطية على الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد ولتلهية الناس بنقاش عقائدي بدل الاهتمام بكبريات القضايا الاقتصادية والاجتماعية ..كما سنستمع أيضا إلى كل أصناف حجج «موش وقتو» علاوة على بعض من نصبوا انفسهم ناطقين باسم الدين والأخلاق ليحذرونا من مغبة جهنم وبئس المصير إن نحت البلاد نحو المساواة والمزيد من الحريات..
سوف نستمع لمثل هذه الحجج حتى لو قدم مشروع كهذا بعد سنوات عديدة وحتى لو قدمته أغلبية مغايرة لهذه التي تحكم البلاد .. فنحن أمام «حجج» تونسية صالحة لكل زمان ومكان ..
هل يعني هذا ألا نستمع لبعض هذه الحجج ولغيرها ؟ بالتأكيد لا، اذ لا معنى لحوار مجتمعي يقصى منه المخالف والمغاير ولكن لا ينبغي لهذه الحجج أن تنسينا الأساسي وهي معارك التونسيات والتونسيين من اجل المساواة والحريات ..
يخطئ من يعتقد بأن ضمان الحريات الفردية بما فيها حرية الراشد (ة) في التصرف في جسده إنما هي مطالب البورجوازية المثقفة في الأحياء الراقية .. انها الضمان الأساسي لاحترام الحرمة الجسدية وكرامة كل بنات وابناء تونس في المدن والأرياف وفي الطبقات الميسورة والطبقات الشعبية.. فحرية الفرد هي أغلى وأثمن مكسب لكل فرد حتى وإن أبدى بعضهم اعتراضا عليها باسم القيم الجماعية .. ويكفي أن نعلم ما هي وجهة كل مضطهد ومظلوم في هذا العالم لكي نتأكد انه عندما يهدد الكائن البشري في كرامته لا يفكر إلا في اللجوء لدول تحترم فيها الحقوق والحريات الفردية والعامة ..
لا يذهب إلى ذهن أحد أن النضال في سبيل الحريات والمساواة سهل ومعبد لا عندنا ولا عند غيرنا .. ولا يغرنا ما نشاهده اليوم في الدول الغربية فكل مكتسباتهم اليوم في هذه المجالات جاءت بعد قرون من العذابات والتضحيات والثورات .. ولكن لا وجود لحريات فردية «خصوصية».. فالحريات الفردية من حرية المعتقد والضمير والتعبير والتصرف الحر في الجسد ،كلها حريات تتأسس على ما يسميه الفلاسفة بالحقوق الطبيعية لكل فرد بما هو كائن إنساني وهو ما اوجد فيما بعد القاعدة النظرية لفلسفة حقوق الإنسان.وهنا يستوي كل أفراد الجنس البشري مهما كانت انتماءاتهم الحضارية والدينية والمذهبية..
صحيح أن النخب العربية على امتداد أكثر من قرن من الزمن كانت متحمسة جدا للحريات العامة أي لتغيير النظام السياسي لكنها كانت متحفظة جدا على الحريات الفردية إما اعتراضا عقائديا عليها باسم غلبة منطق الجماعة على الفرد أو خشية اتهامها بالتغريب ..
ولكن هذه كانت صراعات نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين واليوم بتقدم بلادنا خاصة وبصفة غير مسبوقة في مجال الحريات العامة والبناء الديمقراطي يبقى استكمال المنظومة الحقوقية ايسر عندنا وعوائقه الإيديولوجية اقل بكثير ولكن هذا لا يعني بأننا غير مدعوين لعمل بيداغوجي ضخم يفسر لعامة التونسيين والتونسيات ان المساواة التامة والمطلقة بين الجنسين ليست عملا معاديا للدين بل هي تمكين نصف المجتمع من حقوقه كاملة وان هذا التمكين له انعكاسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وانه يعود بالخير على المجتمع بأسره ويسهم في رقيه المادي والمعنوي وان صون الحريات الفردية إنما هو صون لكرامة التونسي والتونسية من كل تدخل في ضميره ومعتقده وجسده واننا بهذا نسهم في بناء مجتمع تحرّر من قيود الخوف والرياء والنفاق ..
وهنا فعلا نحتاج الى نقاش عميق وهادئ بعيدا عن ضوضاء السياسة السياسوية وتحالفاتها الظرفية وحساباتها المصلحية.. اننا نؤسس لمستقبل أفضل لبناتنا وأبنائنا فلا يجب ان تمنعنا من هذا حسابات الربح والخسارة الآنية ..