مع تحسن نسبة النمو (%2.5) وتواصل هشاشات الاقتصاد: تونس والبحث عن التوافقات المستحيلة

يتواصل الغموض في تونس بشأن المآلات السياسية لاجتماع قرطاج2 وحول إمكانية التوافق من عدمها بين الأطراف الممضية على

وثيقة قرطاج الأصلية حول الأولويات الاقتصادية والاجتماعية بداية ثمّ حول الفريق الحكومي القادر على انجازها ثانيا .

والسؤال الدائم والذي رافق وثيقة قرطاج الأولى والثانية هو هل بإمكان أطراف اجتماعية وسياسية تعبر عن رؤى ومصالح اقتصادية واجتماعية متباينة وأحيانا متناقضة أن تتوافق على برنامج حكومي اقتصادي واجتماعي على المدى القصير ؟ !

الجواب متضمن ولاشك في صيغة السؤال فنحن أمام استحالة هيكلية خاصة عندما نحصر هذا البرنامج في زمنية محدودة ..

وفي الحقيقة هنالك تصوران إثنان أساسيان قد يتفقان جزئيا في التوصيف ولكنهما مختلفان جذريا في الحلول..

يقوم التصور الأول والذي تدافع عنه الحكومة على إعطاء الأولوية للبعد المالي في الاقتصاد أي التوازنات المالية المنخرمة من تداين وخدمة دين وعجز الموازنة وعجز الصناديق الاجتماعية والعجز التجاري وتراجع قيمة الدينار والخسائر الهيكلية للمؤسسات العمومية ..والحل العاجل يكمن في إيقاف هذا النزيف بالحد من الإنفاق العمومي بتجميد الزيادة في الأجور ومراجعة منظومة الدعم وإصلاح الصناديق الاجتماعية وإصلاح المؤسسات العمومية والتفويت في بعضها قصد التخفيض من التداين واللجوء إلى الأسواق المالية ..

أما التصور الثاني والذي يدافع عنه اتحاد الشغل فهو قائم على أن أزمة البلاد ليست أزمة مالية بل هي بالأساس أزمة حوكمة وفساد مالي وإداري وسوق موازية وعدالة جبائية واستخلاص ديون الدولة وان هذه الإصلاحات ستوفر موارد كبيرة للدولة تغنيها عن اللجوء إلى التداين الخارجي بصفة كبيرة وتسمح لها بالاضطلاع بدورها الاجتماعي..

بين هذا الموقف وذاك يسعى الموقعون على وثيقة قرطاج الأولى (أو من بقي منهم) إلى إيجاد الحلول الوسطى بفعل «التنازلات المتبادلة» التي دعا إليها رئيس الدولة يوم أول أمس ..

لا ينبغي للمرء أن يحرز على جائزة نوبل للاقتصاد ليدرك بوضوح أننا نلهث وراء السراب وان التوافق على المدى القصير (أي للسنة المتبقية من هذه العهدة الانتخابية ) بين هاتين المقاربتين مسألة مستحيلة لأنها تحلينا إلى تباين منهجي قوي وهو من أين نبدأ الإنقاذ وما هي أولوياته وأين نجد الأموال ؟ هل نجدها عند المهربين أو المتهربين أم في الصناديق الاجتماعية وفي كتلة الأجور ؟

بعبارة أخرى لو شبّ حريق في البيت هل نلجأ مباشرة إلى إطفائه بما توفر ام نغادره قبل فوات الأوان ؟ والواضح ان سرعة القرار ودقة انجازه مسألة على غاية من الأهمية في كل الأزمات أيا كان حجمها والأسوأ هو التردد ومحاولة التوفيق بين الآراء المتناقضة وعدم الإقدام على الفعل رغم مخاطره .. بلادنا اليوم في هذه الوضعية ..

لابد من التأكيد بأننا لسنا بصدد انهيار اقتصادي بدليل تحقيق اقتصادنا لنمو ايجابي خلال هذا الثلاثي الأول بـ %2.5 وهو أفضل ثلاثي منذ الثلاثي الأول لسنة 2014 والذي حققنا فيه %2.7..

ولقد كان بإمكاننا بلوغ النقاط الثلاث في النمو لو تمكنا من إيجاد حل نهائي لمعضلة الفسفاط إذ تراجع قطاع المناجم (والفسفاط عنصره الأساسي ) بـ%37.9 في هذا الثلاثي الأول لسنة 2018 مقارنة بنظيره في 2017 !!

وأيا كان تقييمنا لهذا المنجز والذي لعبت فيه الفلاحة والصيد البحري دورا أساسيا بنمو فاق الرقمين (%11.9) فان معضلة ماليتنا العمومية قائمة وبقوة .. وهذا يعني انه يتحتم علينا أن نجد حلولا سريعة حتى لا تنهار الموازين وتصبح الدولة عاجزة عن الإيفاء بتعهداتها الداخلية والخارجية ..

ينبغي أن نتذكر أننا نعيش على وقع هذه الوضعية منذ سنة 2013 وان حكومة المهدي جمعة قد أشارت منذ البداية إلى العجز المذهل في الميزانية والى صعوبة صرف جرايات المتقاعدين وأجور الموظفين وذلك في افريل 2014..

وينبغي أن نذكر أيضا رهان حكومة الحبيب الصيد بالإقدام على زيادات مهمة في الوظيفة العمومية والمنشآت العمومية فحصل تضخم في كتلة الأجور لم يصاحبه نمو يذكر ويعود ذلك الى عوامل عدة من بينها الضربات الإرهابية التي أثخنت البلاد في 2015 ولكن تواصلت السياسات قصيرة النظر واضطررنا للجوء إلى صندوق النقد الدولي ومن جديد في 2016 والتزمنا معه بالحد من الإنفاق العمومي ولكن الدولة التزمت في نفس الوقت بمواصلة الزيادة في الأجور مع اتحاد الشغل وفي نفس الوقت تقريبا !!

واليوم يبدو أن «الزنقة وقفت للهارب» وأن زمن القرارات الحاسمة والشجاعة لم يعد يحتمل التأخير وان جل فئات الشعب التونسي مدعوة اليوم لخلاص فاتورة إنفاق عمومي خلال سبع سنوات لم يرافقه خلق الثروة وفرص التشغيل الحقيقية وحركية الآلة الإنتاجية ..

نحن مدعوون ، شئنا أم أبينا، إلى ما يشبه عملية البتر..وبقدر ما تؤخر العملية يتسع مجال البتر ..

لو اتفقنا اليوم على تجميد الأجور أو على زيادات لا تتجاوز %2 مقابل تعهد الحكومة بالضغط على كل عوامل ودوافع التضخم ولو صادقنا على إصلاح منظومتنا الاجتماعية بالترفيع في سن الخروج إلى التقاعد والترفيع في مساهمتي الأجير والمؤجر ولو فوتنا في عدد محدود من المؤسسات العمومية وقمنا بإصلاح حوكمة البقية فسنخرج البلاد في اشهر قليلة من موقع الخطر في توازناتها المالية ولأصبح بإمكاننا دفع أفضل لمكامن النمو.. ولكن لو أخرنا هذه القرارات إلى السنة القادمة مثلا فسيكون البتر مؤلما وسنضطر إلى التفويت في عدة مؤسسات عمومية دون قيمتها الفعلية ..

بعبارة أخرى لا وجود لحلول عاجلة سوى الحلول التقشفية من صنف ما ذكرنا .. وكل سياسة تعتقد انه بإمكانها تجنب هذا البتر المحدود اليوم ستدفعنا بعد أشهر معدودات إلى بتر اشد وبنتائج اقل فاعلية بكثير .. وهذا سيبدأ منذ يوم غد مع زيارة الوفد الفني لخبراء صندوق النقد الدولي.. وغير خاف على احد تزامن هذه الزيارة مع مسالتين على غاية من الأهمية وهي المفاوضات في القطاع العام واحتمال توقيع وثيقة قرطاج 2 وهذا ما سيؤثر بصفة قوية في توصيات هذا الوفد بالإضافة إلى ترسانة الإصلاحات التي تعهدنا بها والتي لم نتقدم فيها بصفة فعلية بالدرجة الكافية .. يكفي أن نعلم أن لو قرر صندوق النقد إيقاف تعامله مع تونس ووقف صرف بقية القرض الممدد فستفتح على بلادنا أبواب جهنم على مصراعيها ولاستحال علينا غلق ميزانية 2018 ولكانت ميزانية 2019 مجزرة اجتماعية بالمعنى الكارثي للكلمة : تسريح عشرات الآلاف من الموظفين وتخفيض الأجور والجرايات بـ%20 أو %30 وترفيع مشط للضرائب وتوقف تام للاستثمار العمومي .. كل ذلك لأننا لن نجد مقرضا واحدا مستعدا لإقراضنا ما نحتاجه من تمويل خارجي لميزانيتنا والذي قد يقدر في 2019 بما لا يقل عن 7 أو 8 مليار دينار تونسي !! أي أكثر من الميزانية المخصصة للاستثمار أو زهاء نصف كتلة الأجور ..

هذا السيناريو المرعب ليس فرضية بعيدة بل هو الفرضية الأقرب لو لم تلتزم تونس بإجراءات تقشفية خلال هذه الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة ولو لم تتعهد بها بكل وضوح ..

ولكن هل بإمكان السياسات التقشفية - على ضرويتها الآنية – أن تحل مشاكل البلاد الاقتصادية ؟ لا وألف لا ..

السياسات التقشفية هي ضرورة وقتية لمنع الانخرام الكلي لتوازنات المالية العمومية ولكي نتمكن من جديد من دفع كل عوامل النمو مجتمعة من استثمار وإنتاجية وتصدير وخلق وابتكار .. ولا أمل لنا في ازدهار نسبي إلا متى كان مشتركا بين جل التونسيين ومتى استفادت منه كل الفئات والجهات المهمشة ليس عبر الإنفاق العمومي فقط بل عبر خلق «جزر» للتفوق والتميز بكل أصنافه معرفيا واقتصاديا واجتماعيا في كل مناطق التخوم حتى تصبح بدورها قادرة على خلق القيمة المضافة وعلى المنافسة القوية مع الجهات الساحلية وهذا يستوجب نظرة استشرافية للدولة وفق معطيات الراهن وتغيرات المستقبل ومن اهمها بداية مسار اللامركزية والحكم المحلي ..

وعندما نضع هذه الافق على المدى المتوسط والبعيد ستكون إمكانيات التوافق عريضة فالمدرسة المتميزة لكل بنات وأبناء تونس ليست خيارا يساريا أو يمينيا والتمييز الايجابي في الدراسة والشغل ليس إجراء يمينيا او يساريا وإيجاد طبقة جديدة من المستثمرين من أبناء الفئات الشعبية ليس هو الأخر إجراء ذا طابع إيديولوجي وأن تصبح سليانة أو القيروان أو القصرين جهات منافسة وأحيانا متفوقة على ولايات كصفاقس أو سوسة أو أريانة ليس حلما يساريا أو يمينيا ..

الازدهار المشترك ليس منّة من الأغنياء أو من الأقوياء أو من الدولة أو من باب شهامة القلب .. انه شرط موضوعي وضروري لازدهار البلاد ولقوة وفاعلية اقتصادها..

المؤسسة الخاصة ليست نقيضا للعدل والانتصاب للحساب الخاص ليس جريمة والنجاح المالي أيضا ولكن المطلوب هو حركية المجتمع وألا يكون التفوق المدرسي والعلمي والاقتصادي والثقافي حكرا على فئات محدودة تتوارثه جيلا عن جيل ..

يمكن إذا أن تتوافق كل القوى الاجتماعية والسياسية في البلاد على مشروع جامع يقوم على الإنقاذ الفوري وفق المتاح وبأقل كلفة اجتماعية ممكنة ومع هذا نبدأ في البناء لتونس الغد المؤسسة على مدرسة متفوقة شمالا وجنوبا شرقا وغربا في الأحياء الراقية للمدن الساحلية وفي القرى النائية كذلك .. التفوق المدرسي للجميع هو اللبنة الأولى لكل مجتمع مزدهر ومتآزر كما ينبغي أن نحرر المؤسسة الاقتصادية من كل عوائقها البيروقراطية الحالية وان تتوجه الدولة لخلق شروط القضاء على التمييز الاجتماعي والمجالي فالتوافق سيكون مستحيلا لو قصرنا نظرنا على الآني فقط ولكن لو نظرنا إلى الأفق فسيصبح سهلا ثم شرطا لبناء حلم مشترك ..

ولكن هذا يتطلب عقولا قد تحررت من هواجسها العقائدية ومن الرغبات التسلطية المباشرة وغير المباشرة كذلك..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115