ديمقراطية وتعددية في تاريخ البلاد ..
مخاوف من عزوف كبير للمواطنين وأخرى من اخلالات لوجيستية ومن تكاثر الخروقات وحتى من مظاهر للعنف قبل الاقتراع وأثناءه والأخير خوف البعض من انهيار الحزب الفائز في انتخابات 2014 نداء تونس وعودة حركة النهضة (مرغمة) إلى صدارة المشهد..
قبل الحديث عن هذه المخاوف وما تحقق منها وانعكاساتها السياسية على البلاد لابد أن نقول بأن جهدا ضخما قد بذل من قبل هيئة الانتخابات وفي ظروف لم تكن دوما جيدة لانجاز هذا الاستحقاق وفي 350 دائرة ..
صحيح أننا سجلنا عدة اخلالات يوم أمس لعل أهمها ما كان قد حصل في بلدية المظيلة بقفصة كما شاهدنا في مواقع عديدة خرق الصمت الانتخابي وخاصة من أنصار نداء تونس وكذلك من حركة النهضة وقد يعود هذا لتسرب معلومات عن هزيمة النداء ومحاولة تلافي هذه الوضعية ..ولكن كان هنالك جهد مبذول واضح من قبل الهيئة وقد حافظ الصندوق مرة أخرى على نزاهته وهذا ليس بالمكسب الهيّن كما أن تأمين الانتخابات كان جيّدا وهذا هام أيضا ..
ولكن هنالك دروس أساسية يمكن استنتاجها انطلاقا من نسبة المشاركة (34 %) من النسب التقديرية التي تكشفها عملية سبر الآراء اثر التصويت التي أجريناها بالتعاون مع مؤسسة سيغما كونساي .
ينبغي أن نتذكر أن نسبة التصويت في تشريعية 2014 على مستوى الناخبين داخل الجمهورية أي دون احتساب تصويت الدوائر بالخارج كانت في حدود %70 والمعلوم أن الانتخابات المحلية هي دوما اقل جاذبية من الانتخابات العامة ولكن لا يمكن أن نفسر فارقا بهذه الضخامة يتجاوز 35 نقطة كاملة فهذا يعني أن العزوف الفعلي بين 2014 و2018 قد شمل حوالي ربع المسجلين وهذا ضخم ويؤشر على أزمة ثقة كبيرة بين جزء هام من المواطنين والعرض السياسي بدءا بالأحزاب الحاكمة وصولا إلى أحزاب المعارضة أيضا والتي لم تتمكن من الاستفادة من التقلص الواضح للقاعدتين الانتخابيتين للنداء خاصة وللنهضة أيضا التي خسرت من الناحية الكمية حوالي نصف ناخبيها مقارنة بـ2014.
أما النتيجة السياسية الأساسية فهي الهزيمة الكبيرة لحزب نداء تونس والذي فقد في هذه الانتخابات كل شيء تقريبا ..
لقد خسر نداء تونس المرتبة الأولى و«أعطى» من جديد الريادة لحركة النهضة دون أن تبذل هذه الأخيرة جهدا خاصا لهذا .. كما خسر الحزب الذي أسسه الباجي قائد السبسي أكثر من 800.000 ناخبة وناخب مقارنة بتشريعية 2014 كما خسر النداء المرتبة الأولى في مدن رمزية هامة بدءا بتونس العاصمة وصفاقس ..
إنها النتيجة الطبيعية للسياسة الغريبة التي انتهجتها القيادة الحالية لهذا الحزب مباشرة بعد فوز النداء في 2014..
انه الفشل الذريع لـ«ولد سيدنا» ولسياسة التوريث الفجة التي أراد انتهاجها رفقة «المنتدبين الجدد» من الآلة النوفمبرية القديمة والذي يصطدم اليوم لا فقط بعدم اكتراث التونسيين بل وبرفضهم لهذا النهج كذلك ولو لا تجند العديد من الوجاهات الجهوية لفائدة القائمات الندائية رغم رفضها لسياسة حافظ قائد السبسي لكانت نتيجة حزب النخلة أسوأ بكثير.
لسنا ندري كيف سيتصرف قاطنو البحيرة (المقر المركزي للنداء) مع هذه الهزيمة .. لعل بعضهم يفكر بنسبتها للحكومة قصد التملص من المسؤولية ولكن نراهن بأن ضغوطا كثيرة ستسلط على الفريق الملتف حول قائد السبسي النجل وأن أطرافا ندائية وازنة ستطالب بتغييرات جذرية في القيادة قصد تجنب خسارة كارثية في الانتخابات التشريعية والرئاسية في نهاية سنة 2019.
ولقد حصل كل هذا رغم حشد حزب نداء تونس لإمكانيات تتجاوز إمكانيات حزب سياسي ورغم انخراط كبار المسؤولين في الدولة لفائدته وخرق المسؤول الأول عن هذا الحزب للصمت الانتخابي بشكل مفضوح عبر توجيهه لرسالة للمواطنين عبر الفايسبوك قبل ثلاث ساعات من غلق باب الاقتراع ..
سوف يركز المراقبون الدوليون خاصة على فوز الحركة الإسلامية بهذه الانتخابات .. وهذا الفوز واضح ولا مجال للتقليل منه ولكننا لسنا أمام زحف للتصويت النهضوي .. فحركة النهضة قد حافظت على نفس نسبتها في انتخابات 2014 بحوالي %27.5 من الاصوات المصرح بها مع فقدانها نصف المصوتين لها ولكن الذي حصل اليوم هو انهيار الحزب الأول : نداء تونس لا انتصار الحركة الاسلامية ..
واليوم السؤال الأساسي هو حول القراءة السياسية لأهم الفاعلين لهذه الانتخابات بدءا برئيس الجمهورية ذاته مرورا بأحزاب الحكم وبالقوى الاجتماعية الفاعلة كاتحاد الشغل وكاتحاد الصناعة والتجارة .. فهل سيتواصل التوافق بين الشيخين والحزبين ام سيحل محله صراع وتنافس ؟
اليوم يبدأ 2019 والتفكير في مواعيده الحاسمة ..واليوم انتصار النهضة لم يعد فرضية نظرية بل إمكانية قوية ولكن في نفس الوقت واضح أن لحركة النهضة حدودا لا تستطيع تجاوزها فهي حتى بنسبة عزوف مرتفعة لا تكاد تتجاوز ربع الناخبين .. بما يعني أن هنالك امكانيات كبيرة لإعادة تشكيل المشهد السياسي من جديد .
ولكن وبعيدا عن كل هذه الحسابات السياسية نحن اليوم أمام معطى جديد يتمثل في وجود اول مجالس بلدية منتخبة وسوف نرى أن الحزب الأول في كل دائرة ليس قادرا بالضرورة على حكم هذه البلدية وان هنالك دورة ثانية ستكون دورة التحالفات.
فلو تحالفت النهضة والنداء لفاز هذان الحزبان بجل البلديات ولكن لسنا ندري هل ان السياق السياسي الجديد سيسمح بهذا التحالف مجددا أم لا ؟ أما لو بحث كل من هذين الحزبين عن تحالفات ظرفية وفق نتائج كل بلدية على حدة فسنكون أمام جولة معقدة من المفاوضات وقد تؤدي إلى تعقد تشكيل أغلبية واضحة في بعض البلديات .
المهم على كل حال أننا وضعنا قدما في مسار السلطة المحلية ولو كان ذلك مشوبا بعزوف ضخم ..مسار قد يكون اعقد مما انتظرناه ولكنه مسار قد بدا بالتحقق..
فعلا لقد صار يوم أمس أمر جلل وسيكون في بلادنا بلا شك ما قبل وما بعد 6 ماي 2018