الخطر بصفة جدية لأن التأخير نتج عن صعوبة جمع المبلغ الإجمالي للجرايات الذي يناهز 300 مليون دينار ، كما جاء ليكشف عن الوضع التراجيدي للصناديق الاجتماعية وعجزها المتفاقم عن الإيفاء بتعهداتها ..ونعلم جميعا ما انجر عن ذلك من إدخال صندوق التأمين على المرض في دوامة ( رغم كونه نظريا ما زال لم يدخل في دورة العجز) وما تبع ذلك من الصعوبات الجمة لكل المشتغلين في القطاع الصحي ..
يمكن أن نرجع عجز الصناديق الاجتماعية إلى جملة معقدة من العوامل ولكن هنالك عامل ديمغرافي صلب لا نستطيع تجاهله أكثر مما تجاهلناه وهو تراجع نسبة المباشرين مقارنة بالمتقاعدين وارتفاع مؤمل الحياة عند الولادةمع إبقائنا على نفس طريقة احتساب الجرايات والمساهمات منذ عقدين من الزمن أو تزيد ..
الواضح أن فرض ضريبة جديدة وهي المساهمة الاجتماعية التضامنية لم يكف لوحده لإيقاف النزيف وأنه لا مناص لنا من التفكير في سلة متكاملة من الإجراءات لضمان ديمومة منظومة التقاعد في البلاد ..
لم نقتنع بعد في تونس بأن منظومة التقاعد عندنا سخية وسخية للغاية .. كما أن لدينا أكثر من ثلاثمائة طريقة احتساب للتقاعد بما يعطينا نظاما سخيا ومعقدا وغير عادل في نفس الوقت باعتبار أن سنة من العمل تعطي حقوقا ونسبا مختلفة جدا وفق نظم التقاعد في تونس .. وهذا يعني أننا مدعوون إلى إصلاح عميق لا فقط لوقف النزيف ولإعطاء التوازن الدائم للصناديق الاجتماعية بل وكذلك لوقف الحيف بين مختلف أصناف الأجراء باختلاف القوة التفاوضية للهياكل التي تمثلهم ..
الإصلاح الأيسر، نسبيا ، يتمثل في الترفيع في سن الخروج إلى التقاعد بسنتين إجباريتين رغم أن بعض القطاعات كالتعليم الثانوي مثلا رافضة له بصفة جذرية ولكن يبدو أننا أمام الإصلاح الأقرب للتحقيق نظرا لموافقة طرفي الإنتاج عليه وهما اتحاد الشغل واتحاد الأعراف ..
ولكن هذا الإصلاح سيعطي مهلة بسنتين للصناديق دون أن يحل مسألة عجزها بصفة جوهرية إذ ينبغي أن ينضاف إليه الترفيع في مساهمة الأجير والمؤجر – وهذا ما يرفضه اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية– وحتى هذا الإصلاح في صورة القبول به (نقطة إضافية للأجير ونقطتان للمؤجر ) لا يحقق ديمومة الإصلاح لان طريقة احتساب الأجر المرجعي سخية للغاية ولاسيما في الوظيفة العمومية والقطاع العام التابع للصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية (CNRPS) بينما هي دون ذلك في القطاع الخاص بما يعطي فوارق تتجاوز عشر نقاط في حالات عدة ..
وإذا ما أضفنا الى ما سبق تعدد وتعقد الأنظمة الخصوصية ما بين مختلف الأسلاك الحاملة للسلاح الى مؤسسات النقل العمومي الى قطاعات الصحة والتعليم وغيرها نصبح أمام ترسانة لا تخضع لمنطق سليم وعادل بل لموازين قوى مختلفة في أزمنة مختلفة كذلك ..
فالإصلاح الفعلي والشجاع لا يتمثل فقط في التحكم في الآليات الكبرى كسن الخروج إلى التقاعد والمساهمة الاجتماعية واحتساب الأجر المرجعي بل في وضع كل هذه الأنظمة الخصوصية فوق الطاولة من اجل منظومة تقاعد عادلة ولها عناصر الديمومة .. من بين الأفكار الأساسية في هذا المجال في العالم اليوم هو اعتبار كل سنة عمل و مساهمة في الصناديق الاجتماعية تعطي نفس الحقوق عند التقاعد وهذا يعني إلغاء كل الأنظمة الخصوصية أو على الأقل النزول بها من هذا العدد الضخم إلى نظامين او ثلاثة على الأقصى تراعي خصوصيات عامة ( كالمشقة مثلا) تم الاتفاق عليها بصفة شفافة لا بالاعتماد على اتفاق قطاعي لا نعلم كيف حصل وفي اي ظروف تمت المصادقة عليه ..
إذا أردنا العدل بين التونسيين فلا اقل من العدل امام منظومة التقاعد اذ لا يعقل أن تعطي سنة عمل فعلية واحدة عشرات النسب فيما بعد في احتساب جراية التقاعد..
وهنا سوف نجد الانانيات القطاعية في طريق كل إصلاح عميق وعادل وشفاف ولكن دون ذلك قد نجد بعض المسكنات الظرفية ولكننا سنؤجل الازمة وسنجعل حلّها مكلفا للجميع فيما بعد ..
ولكن عندما نتكلم عن الإصلاح فنحن لا نقصد إصلاحا فوريا يطبق الآن وعلى الجميع دون مراعاة الفترة التي تفصل الفرد اليوم عن السن القانونية للتقاعد فإصلاح بهذا العمق ينبغي أن يتدرج على عقد من الزمن وان تطبق المنظومة الجديدة كاملة على من هم دون الخمسين من العمر اليوم على سبيل المثال حتى نعطي للجميع قدرة اللجوء إلى أنظمة تكميلية لو أرادوا تحسين مستويات جراياتهم فيما بعد..
ولكن لابد ان نخرج ثقافيا من عقلية جراية التقاعد القريبة جدا من راتب العون النشيط فهذا لم يعد موجودا في العالم بأسره ولكن بإمكان هذا العون ومنذ بداية دخوله في الحياة العملية ان يسهم جزئيا في منظومة تكميلية تسمح له غدا بجراية ملائمة ..
هكذا يكون الإصلاح العميق والشامل : وضع كل هذه الأنظمة فوق الطاولة ثم الاتفاق على مبادئ عامة تضمن العدالة بين مختلف الأجراء وتعطي الوقت الكافي للتأقلم مع الإصلاحات وتضمن في ذات الوقت ديمومة هذه المنظومة.. ولابدّ أيضا أن ينخرط هذا الإصلاح في تصور مجتمعي شامل لهذه الفئة الهامة والمتكاثرة من المجتمع: المواطنات والمواطنون الذين تجاوزوا السن القانونية للشغل ولكن لديهم خبرات وطاقات لا يمكن أن نفرط فيها كما من حقهم أيضا أن يواصلوا في أصناف جديدة من الحياة العملية لا لضمان موارد مالية إضافية ولكن لان العمل بمختلف أصنافه هو حق للجميع وهو كذلك حرية والوسيلة المثلى لتحقيق الذات ولتطويرها عبر الزمن .
فالتقاعد ليس عاهة أو مرضا يكبل المجتمع بل هو طور جديد من العطاء..
هكذا تكون الاصلاحات الكبرى في الأمم التي تريد النهوض والمراهنة على رأس مالها البشري..