كل الأنظار كانت تترقب بوجل مخرجات اجتماع الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل المجتمعة يوم أمس بمدينة الحمامات ..
وعلى عكس ما كان ينتظره البعض فقد وضعت منظمة حشاد بوصلة الوطن أمام أعينها واتخذت القرار الصعب الملائم وهو إيقاف الإضراب المفتوح الذي اتخذته النقابة العامة للتعليم الثانوي وكذلك رفع حجب الأعداد كمبادرة حسن نوايا قوية والمطالبة بفتح مفاوضات جدية ستبدأ عشية هذا اليوم بوزارة المالية ..
وهكذا رفعت القيادة النقابية كابوسا خيم على التونسيين هذه الأيام الأخيرة ..
ليست هي المرة الأولى التي تحتد فيها العلاقة بين قطاع مخصوص من الوظيفة العمومية وبين السلطة التنفيذية ولكن لعلنا نعيش اليوم الأزمة الأخطر لا فقط لتأثيرها المباشر على حوالي 900.000 تلميذ وعائلاتهم ولكن لان التوتر قد بلغ مداه بين شريكين اجتماعيين رئيسيين : الاتحاد والحكومة وانه سيكون ما قبل وما بعد هذه الأزمة..
أولى هذه التبعات المباشرة كانت تحوم حول كيفية الخروج من هذا الزقاق المغلق والمظلم .
من المعلوم أن كل تفاوض يقوم على توسيع المنطقة الرمادية بين المتفاوضين والجديد اليوم انه لا وجود البتة لهذه المنطقة من الناحية الشكلية فالحكومة تقول بأنها لن تقبل بالتفاوض تحت الضغط (حجب الأعداد أولا وتعليق الدروس ثانيا) وأن شرط بداية التفاوض هو الرفع الفوري لهذين الحاجزين ،بينما ترى النقابة العامة للتعليم الثانوي أن مطلب الحكومة لا يمكن أن يقبل لأنه يعدّ من صنف التفاوض المشروط !! بين هذين الموقفين لا وجود لمنطقة وسطى ، أو لنقل بأن تصعيد النقابة العامة للتعليم الثانوي قد عسّر كثيرا رعاية هذه المنطقة الوسطى الضرورية في شكليات التفاوض قبل الشروع في مضمونه.
ولكن القيادة المركزية النقابية قد كذبت كل التكهنات وتجشمت عناء موقف قد يثير بعض الإشكالات خاصة مع كوادرها في الجامعة العامة للتعليم الثانوي ..
لقد دفع الأمين العام للمنظمة الشغيلة نورالدين الطبوبي إلى الموقف الصائب الوحيد : كسر هذه الحلقة المفرغة وقرار من جانب واحد بالعودة إلى التدريس وبرفع حجب الأعداد وحتى إن ربطه بفتح مفاوضات مباشرة وجدية انطلاقا من اليوم ولكن تمكن الطبوبي من تجنب فخ كادت تسقط فيه المنظمة النقابية لأنه أدرك بحدس دقيق وأن الأسعد اليعقوبي الكاتب العام للجامعة قد أعطى هدية لا تقدر بثمن لرئاسة الحكومة ، فما دام اتحاد الشغل يريد ،وبسرعة، رأس هذه الحكومة أو جسدها فلماذا إذن إعطاؤه هدية إضافية ولماذا الاستجابة ، ولو جزئيا ، لمطالب النقابة العامة للتعليم الثانوي خاصة وأنها اختارت نهجا تصعيديا مريدة من ورائه إلحاق «هزيمة « ماحقة بالسلطة التنفيذية ؟!
ثم من هو السياسي الذي سيقبل بوراثة حكومة معها ملف متفجر مفتوح وبهذا الحجم؟ من هو السياسي الذي سيقبل برئاسة حكومة في شهر ماي القادم وهنالك إضراب مفتوح في التعليم الثانوي ؟ ! ثم هل ستقبل حكومة جديدة يبدأ عهدها باقتطاع نصف مرتب شهر كامل لمدرسي الثانوي ؟
فاليوم لا شيء يجبر الحكومة الحالية على تقديم تنازلات خاصة وأنها شبه متأكدة من رحيلها بعد أسابيع قليلة ..
وهكذا لم يعد الأسعد اليعقوبي شوكة في قدم الحكومة بل عبئا غير متوقع على المركزية النقابية لقد أدركت القيادة النقابية أن إدارتها الحالية لازمة التعليم الثانوي تخيف كل شركائها في الداخل وكذلك شركاء البلاد في الخارج إذ تعكس علاقة اجتماعية موتورة وما يحصل في قطاع التعليم قد يصدق غدا على غيره من القطاعات العمومية الحيوية ..
وقد حصل ما كان متوقعا اذ تمرد الأسعد اليعقوبي على قرار المركزية النقابية وأصدر بيانا ليلة أمس يدعو فيه الأساتذة إلى «مواصلة تنفيذ قرارات الهيئة الادارية القطاعية القاضي بتعليق الدروس وحجب الأعداد» كما أنه دعا كافة المدرسين إلى انجاح هذا القرار «بنفس الروح النضالية» وهذا يعني مبدئيا بأن الجامعة لن تشارك في الوفد التفاوضي لاتحاد الشغل اليوم وان شاركت فهي ستتشبث بجلّ مطالبها المادية والتي تكلف مجتمعة أكثر من نصف مليار دينار سنويا.
ولكن هل ستقبل الحكومة بالتفاوض مع ممثلي هذه الجامعة؟ وهل سيتمكن الاتحاد من فرض الانضباط ومن ايقاف هذا «التمرد» في المهد؟ وهل خرجنا من الصراع بين الحكومة والاتحاد إلى صراع نقابي داخلي لا يعلم أحد مآلاته؟!
الأكيد أننا خرجنا من حلقة مفرغة خطيرة ودخلنا من جديد في مربع التفاوض ولكن المخاطر مازالت أمامنا وان الحكومة واتحاد الشغل يلعبان بداية من اليوم ورقة جدّ معقدة في هذه العلاقة التي تدهورت كثيرا بينهما..
ولا ندري هل سيخرج الاتحاد موحدا من هذه الأزمة أم أن بوادر التشقق ستطاله أيضا؟