سخرية البعض، ودفعت بالبعض الآخر إلى التعبير عن مشاعر الاستياء التي انتابتهم بسبب هذا الاختيار غير المدروس بعمق . وهو أمر ينبّهنا إلى استمرار اهتمام شرائح من التونسيين بالدعاية السياسية حتى وإن تظاهر أغلبهم بعدم رغبته في متابعة الشأن السياسي وخطابات السياسيين. ولكنّ هذا الاهتمام لا يتجسد في متابعة برامج الأحزاب ومقارنتها ببعض التجارب الناجحة أو تفكيك ما تقوم عليه من استخفاف بتطلعات المواطنين غاية ما في الأمر أنّه يقف عند السطح ويتخذ الدعاية السياسية مطية للتنفيس عن الكرب، وانتقاد الجهة المنتجة لأنّها لم تكن في مستوى المطلوب.
ونذهب إلى أنّ التركيز على شرح دلالات «الدار الكبيرة» مثله مثل التركيز على هيئة الشقراء التي ترأست قائمة حزب النهضة بسيدي بوسعيد ينمّ عن مأزق حقيقي في المشهد السياسي. فقد صار الفرد يهتم بالظاهر و «القشور» بدل التركيز على المضامين إذ لا وجود لأفكار بديلة ومتنوعة، ولا وجود لخيارات متعددة ومتاحة تعرضها الأحزاب على بكرة أبيها. يضاف إلى كلّ ذلك وعي المتقبل بأنّ الرسالة ذات المضمون الدعائي السياسي باتت فاقدة للجاذبية والفعالية على حدّ سواء. فمن منّا يصدّق أنّ حزبا انقسم إلى مكونات صغرى متشذرمة وهجينة، وتضاربت فيه مصالح الأفراد إلى حدّ إبراز التباغض والحقد والكره هو قادر بالفعل على احتواء الجماهير وتقديم الاستقرار و«الحماية» والوفاء بالوعود؟ ومن منّا يصدّق أنّ حزبا يهتم بتنظيم الزيارات والرحلات والأفعال الاجتماعية الخيرية في موسم الانتخابات قادر على قيادة البلاد؟
إنّ هذه الدعاية السياسية مراوغة بلا شك فهي تسعى إلى المزج بين مقتضيات «التسويق الانتخابي» والشعبوية، وتروم العزف على «أوتار أغاني الزمن الجميل» وسينما الزمن الجميل ، ونمط عيش الزمن الجميل... فهي أقرب إلى تفعيل المتخيّل الجمعي من الإقناع بالفعل السياسي والعمل على إنتاج خيارات بديلة للحكم المحلي . ولا يخفى أنّ استعمال الفيديو، أي النص المرئي في الحملة الانتخابية غايته التحكم في الطريقة التي بها نفكّر في الفعل السياسي ونعقل الصور وندرك المعاني.
وفي الوقت التي يزعم فيه صانعو هذا الفيديو أنّهم ينتجون المعنى، والبدائل نلمس بما لا يدع مجالا للشكّ المأزق. فالخطاب يفضح نفسه إذ لا وجود لخيار سوى العودة إلى ماض يُتمثل على أنه الأفضل ولا بديل سوى الرجوع إلى الأنموذج و استلهام تجربة الدولة الوطنية .وكأنّ الأوائل ما تركوا شيئا للأواخر وكأنّه ليس بالإمكان الابتكار بل التقليد. غير أنّ ما لا يجيب عنه الفيديو هو من صاحب «الدار الكبيرة» ومن هو الأب القادر على ردع الإبن الضال وخلانه وكل الصبية المتلاعبين بالصالح العامّ؟
ومادام «الابن الضال» قد شوه البنيان ومادام الأخوة الأعداء قد هدموا الأساس فلا سبيل إلى معالجة الفرقة والتناحر إلاّ في دغدغة مشاعر التونسيين «نتعاركوا نتخالفوا والبغض ما نشدوش... الدار الكبيرة اللي قوتها في ناسها.. ولد الحومة وبنت الحومة... وحلم نداء تونس».
لا تقف علامات الشعبوية عند الدعوة إلى الاحتماء بالماضي واستحضار معجم «الحومة» فنحن نراها في سلوك المعارضين الذين يكتفون بالتنديد فتتحول الشعبوية إلى ردة فعل احتجاجية عقيمة لا تنتج بدائل سياسية واقعية كفيلة بإخراج البلاد من الأزمة، ونلمس هذه الشعبوية أيضا في خطاب أولائك الذين يبحثون عن مبررات للأنظمة التسلطية التي كثيرا ما حدّت الخيارات أو واجهتها من موقع الأيديولوجيا المهيمنة، وما تركت الفرصة لمختلف المكونات السياسية والاجتماعية حتى تعبر عن رؤيتها للأوضاع. فما هو الحلّ أمام هذا الجمود السياسي؟
لا خيار لنا سوى في الاصطفاف وراء المجتمع المدني الذي بإمكانه أن يضغط في سبيل تحويل المقترحات إلى واقع ملموس والذي بات، في تقديرنا، متمتعا بمشروعية ما كان بالإمكان له أن يحظى بها لولا ضعف الآداء السياسي وبؤس المشهد السياسي. ونعتقد أنّ بعض مكونات المجتمع المدني باتت حمالة لأفكار جديدة ومرشحة أكثر من غيرها لإعادة بناء الخيارات البديلة غاية ما ينقصها هو تحويل مقترحاتها إلى سياسة فعالة قادرة على تجاوز عوامل الكبح والانسداد والتجميد.