بين التقني والسياسي والتكتيكي: في بوصلة الإصلاح

اليوم في تونس تنافس غريب بين أجندات تدعي كلها الإصلاح ولكنها تتخاصم حول بنوّته..

فالممضون على وثيقة قرطاج وتحت إلحاح وإصرار اتحاد الشغل واتحاد الأعراف بصدد التوصل إلى وثيقة جامعة سوف تدعى وثيقة «قرطاج 2» وستكون بمثابة خارطة طريق للحكومة إلى موفى هذه العهدة الانتخابية أي على امتداد العشرين شهرا القادمة.. في المقابل سعت الحكومة يوم أمس في إطار «الندوة الوطنية حول الإصلاحات الكبرى» إلى القول بأن لها «خارطة طريق» قررت بمقتضاها إعطاء الأولوية الكبرى لأربع أولويات وهي المؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية ومنظومة الدعم والإدارة ..

ويبدو أن الحكومة تخشى أن يبقى عملها في «الغرف المغلقة» لذا قررت أن تعطيه الضوء الكافي عبر هذه الندوة الوطنية وورشاتها الأربع

ولكن بغض النظر عن المآلات السياسية وحتى السياسوية لمساري الإصلاح هذين وحول من سيطبق ماذا .. السؤال اليوم ليس فقط في مجالات الإصلاح – فجلها أضحى معروفا اليوم –ولكن في ترتيبها وفي البوصلة التي ينبغي أن تقودها ..
يعني انه لا يكفينا في تونس أن تكون لدينا «خارطة طريق للإصلاحات» بل ينبغي أيضا أن نتوفر على اتفاق «الخطوات الأولى» حتى نقبل جميعا في سلوك سبل الإصلاح .

بماذا نبدأ ؟ وهل نبدأ بكل الإصلاحات معا أم ننظمها وفق نسق تصاعدي؟

يبدو للبعض أن الإجابة عن هذه الأسئلة سهلة إلى حد ما فما دامت البلاد تشكو من أزمة مزمنة في المالية العمومية (تداين وتضخم الإنفاق العمومي) فلا بد أن تكون البداية من اصلاح المالية العمومية للحد من النزيف بداية ثم لإيجاد توازن مستديم بين مجالات الإنفاق وأبواب الواردات ..

ولكن حتى لو اتفقنا على هذا المدخل يبقى السؤال قائما : هل نعالج كل مظاهر الخلل أو أهمها على الأقل من الوهلة الأولى أم نتدرج في ذلك ؟

وقبل كل هذه الأسئلة : هل لدينا تصور دقيق لكل ما نريد القيام به ؟

الواضح أننا لا نملك إجابة لا على الأسئلة الأولى ولا كذلك على الأسئلة الثانية مع يقين الجميع بأن كل تأخير في الإصلاح ستكون كلفته مرتفعة للغاية ..

لاشك بأنه ينبغي إصلاح المالية العمومية ولكن الوضع العام للبلاد لا يرتبط كله بالمالية العمومية وهنالك إصلاحات أخرى كبرى وأساسية لا تتعلق ضرورة بإحدى خانات التوازنات العامة للدولة..

نحن متفقون على شيء واحد هو أن مجالات الإصلاح كبيرة وهيكلية في البلاد، ولو دققنا النظر لرأينا أن المالية العمومية تتأثر سلبا أو إيجابا بمجالات لا تنتمي لها مباشرة.. فلو تمكنا ،مثلا ، من تحسين تشغيلية جزء من شبابنا الحاصل على شهادات جامعية وهو الآن عاطل عن العمل لاستطعنا في ظرف سنة أو سنتين على الأكثر تشغيل عدة عشرات الآلاف منهم بغض النظر عن حجم التشغيل السنوي الآن لأننا نعلم علم اليقين أن هنالك حوالي مائة وخمسين ألف موطن شغل غير ملبى نظرا لفقدان المترشحين لكفاءات معينة تطلبها المؤسسة.. لو حصل هذا في سنة ما فإننا سنساهم بصفة هامة في تمويل الصناديق الاجتماعية وبالتالي في تقليص نسبي لعجزها المزمن ..

ونبقى في نفس الإطار : لو قمنا اليوم بالإصلاح الضروري لمنظومتنا التربوية أي لو شرعنا منذ السنة الدراسية القادمة في المراهنة على التفوق والتميز للجميع وعلى تطوير هام لمكتسبات التلاميذ فنحن سنساهم في تحسين وضعية الصناديق الاجتماعية والحد من البطالة والرفع من قيمة اقتصادنا بعد حوالي عشرية من الزمن ..
وقد يقول بعضهم أن الوضع كارثي اليوم ونحن نحتاج لحلول عاجلة وقوية .. وهذا صحيح ولاشك ..

ولكن لو كانت بوصلتنا موجهة فقط إلى الحلول العاجلة فإننا سوف نبقى نقاسي من نفس المشاكل على امتداد عقود وعقود .. فالبوصلة الجيدة هي التي تجدد حلول العاجل وفق مآلات الآجل لا العكس .. ولهذا الاعتبار كانت كل سياسات الإنفاق العمومي خاطئة منذ سنة 2011 لأنها عالجت أزمات اجتماعية حقيقية بحلول وقتية تناقض المصلحة العامة الآجلة لأنها لا تحقق الديمومة والفاعلية ..

نعتقد أن البلاد تحتاج الى حزمة أولية من الإصلاحات وانه لابد من المزاوجة بين الحيني العاجل (الصناديق الاجتماعية مثلا ) مع إصلاحات على المدى المتوسط والبعيد ..لأننا لو اكتفينا بالإصلاحات العاجلة فكأننا سنقول لمواطنينا : نعدكم بالعرق والدموع فقط في حين أن إصلاحات المدى المتوسط (كتسريع وتيرة التنمية في المناطق الداخلية ) والبعيد (إصلاح جذري للمنظومة التربوية والتكوينية ) هي الإصلاحات التي تضبط أهدافا عامة لهذا الجهد الوطني المطلوب ..

ولكن قبل هذا وبعده لابد من الابتعاد عن الحسابات الجزئية وعن السياسات الاتصالية فالإصلاح ضروري للبلاد ومسألة بنوته لا تهم أحدا..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115