في مقدم الصورة «قبائل» تتصارع وتتنافس حول كل شيء ولا تكاد تتفق إلا حول القليل والقليل جدا .. شعار الجميع « انصر أخاك ظالما أو مظلوما» وهذا ليس شعار الفرقاء السياسيين فقط بل الغالبية العظمى لمكونات المجتمع التونسي من مهن ونقابات وجهات ومدن وأحيانا أحياء .. بما جعل منا جمهورية للقبائل لا جمهورية شعب موحد وأمة لها مشروع مشترك ..
والإشكال أن «حرب الكلّ ضد الكلّ» هذه المميزة لما يسميه الفلاسفة بحالة الطبيعة لا تنعكس فقط على المشهدين السياسي والاجتماعي بل أصبحت تضغط بصفة متعاظمة على اقتصادنا الهش وآلتنا الإنتاجية المترنحة بعد أن افسد جل التوازنات الكبرى للمالية العمومية من مديونية فاقت %70 من الناتج المحلي الإجمالي، إلى تراجع خطير لمخزوننا من العملة الصعبة وتضخم تجاوز %7 وما رافق ذلك من ترفيع مستمر لنسبة الفائدة المديرية (%5.75 الآن ) بما يعني ظروفا أصعب بكثير في تمويل الاقتصاد..
نعيش اليوم حالة نفسية عند هذه «القبائل» غريبة جدا تنبني على الارتياب الجذري والشامل في الآخرين والاطمئنان فقط إلى المنسجم قبليا.. حالة لا ترى فيها هذه «القبائل» القواسم المشتركة بين سائر متساكني البلد بل تخلط عمدا أو جهلا بين حدها الأقصى القبلي والحد الأدنى الوطني بما ينتج عنه ضرورة عدم التواصل والتوصل إلى مناطق مشتركة ..
الواضح أن الدافع الأول لجل هذه «القبائل» هو افتكاك أكثر ما يمكن من المكاسب من دولة ضعيفة ولا تحظى باحترام كل «شيوخ» هذه «القبائل»..
وهذا التوصيف ليس استنتاجنا الخاص بل هو عين ما تصرح به هذه «المشيخات» القائمة هنا أو هناك ..
قد يبدو هذا التوصيف مبالغا فيه ..ففي تونس دولة ومؤسسات وهياكل وأحزاب ومنظمات تتحاور فيما بينها وتنتهي في أحيان كثيرة إلى توافقات وتنازلات متبادلة وهذا هو منطق الدولة والأمة الموحدة ..
صحيح أن حالة التفكك التي نشاهدها رأي العين لم تات على كل شيء وان تونس مازالت قائمة ولاشك عندنا في عمق انتماء جلّ التونسيين لها أو إدراكهم بأن هنالك مصالح عليا لابد من احترامها ..
هذا كله صحيح ولكن هذا يمتزج بنسق متنام مفاده أن الدولة الحالية (أي إما الدولة التونسية منذ بدايتها إلى اليوم أو دولة الاستقلال فقط أو دولة ما بعد الثورة مع العلم بأن جلّ التونسيين لا يميزون بين الدولة والسلطة والحكومة ) لم تعط لقبيلتنا المخصوصة ما تستحق من عناية أو مكاسب أو امتيازات وأنها لا تستجيب إلا لمنطق موازين القوى (وفي الغالب إلى منطق القوة) وان بداية تحقيق المصلحة الوطنية إنمّا يمر ضرورة عبر الاستجابة العاجلة للمطالب المخصوصة لكل قبيلة على حدة ..
وتتضح هذه العلاقة أكثر بين المركز (الدولة) والتخوم (القبائل) عندما نستعرض معا المصالح العاجلة والآجلة للدولة وما يلزم لتحقيق ذلك.. لقد أصبحت الدولة التونسية تقترض تقريبا لتسديد خدمة الدين (أي المبلغ السنوي لخلاص أصل الدين وفوائده) وتشهد تضخما في إنفاقها على حساب مداخيلها وتحرم من جزء هام من عائدات ثرواتها الطبيعية المحدودة ولا تشتغل فيها المحركات الأساسية للنمو من إنتاج وإنتاجية وتحسين القيمة المضافة للعمل ولرأس المال .. والواضح هنا أن التزام كل المواطنين وأطراف الإنتاج ومختلف المهن والمنظمات الممثلة لها بتقديم المصلحة الوطنية (أي مصلحة الدولة كمعبر وحيد عن الإرادة الجماعية ) يعني أن يشتغل الجميع ، مع هامش من النقد بالطبع ، من اجل تجاوز هذه الوضعية الصعبة ولكن لا أحد يبدو مكترثا بها بل وترى جلّ «القبائل» التونسية أن هذا التوصيف إنما هو مغالطة لمزيد إحكام الدولة سطوتها وسلطتها على المجتمع ليس إلا ..
لاشك أنّ المسؤولية لا تقع فقط على «القبائل» ومشيخاتها بل تقع أيضا على السلطة القائمة المخترقة بدورها بمنطق القبيلة او العاجزة عن رسم أفق وطني موحد لكل التونسيين ، إذ لا معنى لمطالبة جلّ المواطنين بمزيد من العمل ومن التضحية وبقبول تراجع نسبي لمقدرتهم الشرائية دون أن نعلم جميعا لم سنقدم معا على كل هذا ؟ ما هو الأفق الذي تدعونا إليه هذه الحكومة ؟ وما هي تونس التي سندعى لبنائها ؟
من واجب السلطة التنفيذية ،بكل مكوناتها ، ان تسهر على التوازنات المالية الكبرى للبلاد وان تطلب من مواطنيها تضحيات من أجل إبعاد شبح الانخرام الكلي لهذه التوازنات وما قد يصحب هذا الانخرام من انهيار اقتصادي شامل ولكن المالية العمومية والإصلاحات الضرورية لإنقاذها ليست هي فقط لبّ العقد الاجتماعي الذي ينبغي أن يربط الدولة بسائر مواطنيها.
والإصلاحات الكبرى ليست هي فقط إصلاح الوظيفة العمومية والصناديق الاجتماعية ومنظومة الدعم والمؤسسات العمومية ..
الإصلاحات الكبرى هي أولا وقبل كل شيء إصلاح المدرسة والتكوين من السنة التحضيرية إلى الدراسات ما بعد الجامعية ..إصلاح يهدف إلى إعداد الغالبية العظمى من جيل معين إلى العالم التنافسي اليوم وان يجعل من الامتياز والتفوق افقا متاحا وممكنا للغالبية الساحقة من بناتنا وأبنائنا في كل مدرسة من مدارس الجمهورية ..
والإصلاح الثاني والأهم والمصيري هو تشغيل كل المصاعد الاجتماعية بما يسمح بما يسمى بالحركية الاجتماعية (la mobilité sociale) أي أن لا يتم توارث المال والجاه والعلم في أوساط وجهات وفئات معينة وهذا لا يكون إلا بسياسات عمومية قوية تجعل من المساواة في الفرص بين كل التونسيين مسالة ملموسة لا مجرد شعار برّاق نستحضره بين فينة وأخرى ..
فتنمية المناطق الداخلية في معناها العميق لا تعني أن يستثمر فيها أثرياء المناطق الساحلية بل تعني ان تخلق الدولة فيها طبقة جديدة من نساء ورجال الأعمال لا فقط حرفيين وتجارا صغارا ..
وهذا ممكن ومتاح فكما خلقت الدولة التونسية في سبعينات القرن الماضي جيلا جديدا من نساء ورجال الأعمال استقر جلهم في الشريط الساحلي فكذلك بالإمكان اليوم خلق جيل جديد من نساء ورجال الأعمال في الشريط الغربي وفي ولايات الجنوب ..
مسؤولية الدولة عندما تخطط لمستقبل البلاد بأسرها أن توفر شروط التفوق المدرسي والتمكين الاقتصادي الرفيع في كل منطقة وان تعمل على تحسين جودة الحياة في كل ربوعنا ..
عندما تقدم الدولة التونسية مشروعا كهذا لمواطنيها فعندها قد تزرع البذرة التي تقضي على القبلية من جذورها : الأمل والحلم بمستقبل جميل وأفضل ولو تتطلب منا ذلك خمس أو عشر سنوات من التضحية ومن الكدّ والعمل ..
فالأمل يعيد الثقة إلى النفس ويجسّر الثقة مع الآخر الذي يصبح شريكا نتعاون معه لا خصما أو عدوا نرتاب منه..
فالقبلية إنما هي الوجه الآخر لفقدان الأمل الجماعي وعندما نتمكن من رسم مشروع وطني طموح لا يكتفي فقط بالنظرة المحاسبية عندها نقطع مع منطق القبيلة ونؤسس جميعا لدولة عادلة ومزدهرة ..