ما يمكن أن نسميهم بالسياسيين المسؤولين عن منظومة الحكم في البلاد..
فمن خطاب سيدي بوزيد منذ أسبوعين إلى خطاب الحمامات يوم أمس انتقل نورالدين الطبوبي من المطالبة بإحداث بعض التعديلات على المسؤولين سواء كان ذلك في الحكومة أو على مستوى الإدارات العامة إلى نقد أشمل حيث تحدث عن تفكك في أجهزة الدولة وعن صراع بينها إلى درجة أننا لم نعد نعلم من يحكم في البلاد ومن هو «ربّان السفينة» وأن تونس «ليست مخبر تجارب» وأنها بحاجة إلى قيادات سياسية قادرة على مسك الأمور وعلى إخراج البلاد من أزمتها الحالية .
هل يعني كل هذا أن نورالدين الطبوبي قد نفض يديه نهائيا من الحكومة الحالية وخاصة من رئيسها يوسف الشاهد بعد فترة هامة ممّا كان يشبه التحالف الاستراتيجي بينهما ؟ أم هل نحن فقط أمام خطب حماسية أمام الكوادر النقابية لرص الصفوف قبل انطلاق جولة المفاوضات الاجتماعية في القطاعين العام والخاص تدل كل المؤشرات بأنها ستكون صعبة للغاية بالنظر إلى تردي جلّ مؤشرات المالية العمومية وتدهور المقدرة الشرائية بحكم ارتفاع التضخم إلى نسبة عالية جدا (%7.1 في شهر فيفري الماضي )؟!..
نستبعد منذ البداية فرضية «الخطب الحماسية» لأن النقد الذي وجهه الطبوبي لمنظومة الحكم مهيكل ولديه حجج قوية ، بعضها ولاشك قابل للنقاش كالموقف من الخوصصة الكلية أو الجزئية لبعض المؤسسات العمومية ولكن نقد أداء منظومة الحكم والحديث عن تفككها وتعدد «ريّاسها» وارتهانها إلى دوائر خارجية أو بصفة أدق تدخل دوائر خارجية للتأثير على مجرى الأحداث السياسية في البلاد وخاصة بمناسبة الانتخابات العامة في نهاية 2019..كل هذا يبعدنا عن فرضية «الخطب الحماسية» ويؤشر على نوع من القطيعة السياسية بين اتحاد الشغل والحكومة مؤسسة على تقييم سياسي عام لأداء الحكومة دون أن يعني ذلك ضرورة دعوة صريحة إلى الإطاحة بـ«حكومة الوحدة الوطنية» ولكن لم يعد يفصلنا عن هذه المرحلة سوى تفاصيل بسيطة ..
والسؤال الأهم هو لم هذا التحول في العلاقة بين اتحاد الشغل والحكومة وهل يعود فقط إلى النتائج السلبية الاقتصادية والاجتماعية لفريق يوسف الشاهد أم هنالك شيء آخر يعتمل في الكواليس ؟
لاشك لدينا بأن اتحاد الشغل كغالبية التونسيين،قد أصيب بخيبة أمل من أداء منظومة الحكم بأسرها أي رأسي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وكذلك كل ما يحوم حولها من قريب أو بعيد ..ولا شك أيضا أنه كان ينتظر أكثر عزما وتصميما من قبل الماسكين بالحكم لأخذ القرارات الشجاعة لوضع البلاد على السكة الصحيحة ..
ولكن يبدو أن هذا العنصر، على أهميته القصوى،قد انضاف إليه عنصر ثان لا يقل عنه أهمية وهو إحساس المركزية النقابية بأن الحكومة قد تكون بصدد التخطيط لإضعاف الاتحاد قصد استرجاع نفس جديد بعدما اتضح للجميع المربع المحدد سلفا للحرب على الفساد وانه لم يعد بالإمكان الاعتماد فقط على هذا «المخزون» لمواصلة المشوار.. وكان برنامج الحكومة ،في هذا الحدس أو المعلومات النقابية لا ندري ، يقدم الفكرة التالية : بعد أن كنّا أول حكومة تحارب الفساد سنكون أول حكومة تفرض التراجعات والتنازلات على اتحاد الشغل بقصد تحجيم دوره والحد من قدرته على رفض الإصلاحات التي تنوي الحكومة القيام بها..
ويبدو أن المركزية النقابية تخشى من عزم الحكومة على بدء عملية خوصصة المؤسسات العمومية وبأن تعمد الى ذلك بالبحث عن سند شعبي وسياسي وإعلامي ضد اتحاد الشغل وأن تظهره في مظهر الجامد المتحنط الذي يرفض الإصلاح المتعلق بوقف إهدار المال العام في هذه المؤسسات التي أضحت خاسرة بصفة هيكلية ..
إذا صحت هذه القراءة فنحن الآن أمام ما يشبه معركة استباقية من قبل القيادة النقابية. معركة تهدف إلى إضعاف القصبة قصد ثنيها حتى عن مجرد التفكير في بدء عملية خوصصة بعض المؤسسات العمومية باعتبارها «خط أحمر» وانه لو غامرت الحكومة بنهج هذه الطريق فستتعقد معها كل الملفات الاجتماعية المطروحة اليوم عمليا أو افتراضيا على طاولة النقاش كالترفيع في سن التقاعد وفي نسبة مساهمة الأجراء في الصناديق الاجتماعية ومنظومة الدعم وإصلاح الوظيفة العمومية وغيرها ..
واللافت هنا أن الأمين العام للمركزية النقابية لا يغلق باب الإصلاحات ولكنه يحدد مجال هامشها : إصلاح المؤسسات العمومية بدلا عن خوصصتها ..
وفي خطاب يوم أمس بالحمامات أمام مؤتمر الجامعةالعامة للصناعات الغذائية والسياحة والتجارة والصناعات التقليدية أشار نورالدين الطبوبي بوضوح إلى أن كل من أراد «التآمر» على الاتحاد قبل الاستقلال وبعده وزمن بورقيبة أو بن علي فإنما خرج هو الخاسر ..
واللبيب، كما يقول المثل، من الإشارة يفهم ..