(%7.1 في فيفري الماضي) بما يهدد بوضوح القدرة الشرائية للمواطنين وادخارهم أيضا ومن وراء ذلك كل التوازنات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى للبلاد..
قد لا يهتم عامة التونسيين كثيرا بإحصائيات التضخم بل وقد لا يثقون فيها دوما ولكن الثابت بالنسبة لهم أن «الدنيا شعلت» وأن الأسعار أصبحت جنونية والانطباع الطاغي عندهم أن ما كان يمكن اقتناؤه بمائة دينار منذ سنوات قليلة أصبح يقتضي ضعف ذلك ..
لاشك أن الأرقام لا تؤيد بالضبط هذا الإحساس المتفشي في البلاد ولكن المسيرة الجنونية للتضخم منذ بداية السنة الفارطة أصبحت مزعجة جدّا .ونحن ببلوغنا نسبة %7.1 في شهر فيفري الماضي قد اقتربنا من حافة الدوامة التضخمية حيث تصبح السيطرة على هذه الآفة شبه مستحيلة ..
لقد حرص المحافظ الجديد على الخروج للرأي العام لإيضاح مسائل ثلاث على غاية من الأهمية :
- تفسير المهام المناطة بعهدة البنك المركزي بحكم القانون للتحكم في الأسعار أي في التضخم.
- شرح الأسباب التي أدت إلى هذا التضخم وتواصل الضغوط التضخمية الى نهاية هذه السنة.
- عرض مختلف الوسائل والسياسات النقدية المتاحة للبنك المركزي لتجنيب البلاد الدوامة التضخمية ..
لو بسطنا الأمور لقلنا بأن الوسيلة الرئيسية المتاحة للبنك المركزي للتحكم في التضخم هي الترفيع في نسبة الفائدة المديرية وهذا ما حصل إذ انتقلت في بداية الأسبوع الفارط من %5 إلى %5.75 .ودون الدخول في تفاصيل تقنية نقول بأن البنك المركزي يسمح دائما للبنوك بمجال تصرف في نسبة الفائدة هذه سلبا أو إيجابا حسب العرض والطلب في السوق النقدية ويبقى البنك المركزي يراقب تطور نسبة الفائدة في السوق النقدية والمعروفة عند كل التونسيين بـ(TMM : Taux du Marché Monétaire) حتى لا يكون البون كبيرا نسبيا بين نسبة الفائدة المديرية ونسبة الفائدة في السوق النقدية. وللتذكير نقول بأن نسبة الفائدة في السوق النقدية قد كانت منذ أيام قليلة بـ%5.61 عندما كانت نسبة الفائدة المديرية بـ%5 فقط أما اليوم وبعد أن تم الترفيع في نسبة الفائدة المديرية إلى %5.75 فقد بلغت نسبة الفائدة في السوق النقدية (TMM (%5.8 ..
يهدف الترفيع في نسبة الفائدة المديرية بالأساس إلى المحافظة النسبية على جاذبية الادخار الذي حدّد مستواه الأدني بـ 5 % اذ لو لم يحصل ذلك فسيعزف الجميع أفرادا ومؤسسات على الادخار نظرا للخسارة التي سيتكبدونها بحكم التضخم وقد يلجؤون إلى الاستثمار في أنشطة ضعيفة المردودية الاقتصادية كاقتناء العقارات أو المصوغ وبالتالي إخراج هذا الكم الهائل من السيولة من السوق النقدية والاقتصادية المنتجة ..
ولكن الترفيع في سعر الفائدة المديرية للبنك المركزي تنتج عنه مباشرة كلفة إضافية لكل عملية اقتراض سواء كانت لغايات استهلاكية عائلية أو لتمويل الاقتصاد الحقيقي عبر القروض المسداة للمؤسسات إذن هنالك مخاطر هامة تحوم حول التخفيض من النمو عبر الصعوبة الجديدة للاقتراض ولكن البنك المركزي مضطر في لوحة قيادته إلى التوفيق بين مقتضيات متناقضة..
- المحافظة على جاذبية دنيا للادخار
- عدم تعطيل تمويل المؤسسات الاقتصادية
- المحافظة على الحدّ الأدنى من الموجودات الصافية للعملة الأجنبية والتي سجلت خلال يوم أمس انخفاضا جديدا وصلت بموجبه إلى ما يعادل 77 يوما للتوريد وهو مؤشر ينذر بالخطر كذلك.
- الحفاظ على معدل سعر صرف معقول للدينار بعد الانحدار التاريخي الذي شهده السنة الفارطة ..
كل هذه المقتضيات متناقضة كما هو واضح وكل تصرف يظهر بكونه إيجابيا في إحداها ينتج عنه ضرر فادح في التوازنات العامة كأن نحسن بصفة إرادية وإدارية في سعر الصرف عبر ضخ كميات هامة من العملة الاجنبية في السوق فينتج عن ذلك تراجع هام لمخزوننا من العملة الأجنبية..
ولكن رهان البنك المركزي هو أن يحد الترفيع في نسبة الفائدة المديرية من قروض الاستهلاك العائلي بداية ومن توريد بعض الكماليات ثانيا. ورغم إدراكه بأن هاتين النتيجتين ستؤثران الى حد ما في نسق النمو ولكنه يهدف إلى تعديل السوق عبر التأثير على الطلب قصد دفع الأسعار الى شيء من الاستقرار وبالتالي بداية التراجع النسبي لمؤشر التضخم هذا هو رهان البنك المركزي وهو يقر بأن بداية التراجع هذه لن تكون قبل السنة القادمة اعتبارا لتواصل تأثير العناصر التضخمية منها الواردة في بعض الزيادات الجبائية في قانون المالية (والمقدر تأثيرها الإجمالي بحوالي نقطتين إضافيتين في التضخم ) وارتفاع أسعار المواد الأولية في العالم دون ان ننسى تواصل تدحرج الدينار (والذي لم يقل عنه المحافظ شيئا خوفا من استباق الفاعلين الاقتصاديين )..
ولكن لا ينبغي أن ننسى ان التحكم في التضخم وإن انيط قانونا بعهدة البنك المركزي إلا أن المتسببين فيه كثر من ذلك عجز الميزان التجاري المتعلق بتجارتنا الخارجية توريدا وتصديرا وعجز الميزان الجاري (أي مجموعة من الموازين : من الميزان التجاري إلى ميزان الخدمات إلى ميزان المداخيل وميزان التحويلات النقدية ) وبالأساس نسق النمو وخلق القيمة المضافة والثروة ، وهذه كلّها معطيات تهم السياسات العمومية من جهة والديناميكية الاقتصادية للبلاد برمتها من جهة أخرى ..
ينبغي فقط أن يعلم كل التونسيين أن كل جهد إنتاجي نخسره سواء بتوقيف الإنتاج أو بضعف مردوديته ..سيؤثر سلبا في كل هذه الموازين وبالتالي في نسبة التضخم والعكس بالعكس ..
ولنسبة التضخم اهمية قصوى كذلك في المفاوضات الاجتماعية القادمة اذ سيسعى اتحاد الشغل الى المطالبة بزيادات في القطاعين العام والخاص تغطي على الأقل نسبة التضخم هذه حتى يحافظ على القدرة الشرائية للشغالين، ولكن نعلم جميعا أن الزيادة في الأجور التي لا تتناسب مع الزيادة في الإنتاج والإنتاجية والقيمة المضافة إنما هي احد معاول الدوامة التضخمية ..
فالتضخم كما ترون ليس مسألة تقنية ولا يهم فقط «قفة المواطن» انه مؤشر على جملة من الأمراض الاقتصادية ومن سياسات عمومية فاقدة للنجاعة وإصلاح هذه الأمراض لا يكون الا بإصلاح عللها لا فقط بمحاولة محو بعض أعراضها ..