وتتضح صورة العرض الانتخابي التفصيلي في كل دائرة بشكل شبه نهائي في انتظار شهر كامل سيخصص للطعون..
ولكن الواضح أننا مع إعلان هيئة الانتخابات عن نهاية فترة البت سنكون قطعنا شوطا أساسيا في التنافس الانتخابي وستبدأ الأحزاب والقائمات المستقلة في عرض أفكارها ومشاريعها وفي محاولة احتلال الميدان إعلاميا وسياسيا وبشريا..
وسوف نشهد ،على الأرجح ،حملتين انتخابيتين مختلفتين : ستركز الأولى على مشاكل كل دائرة بلدية على حدة وعلى تعهدات القائمة المترشحة وهذا ما ستفعله كل القائمات تقريبا وخاصة منها المستقلة إذ لا يتوقع منها هي بالذات حملة على المستوى الوطني مادامت قائمات فردية لا تنسيق بينها بموجب منطق القانون الانتخابي وإلا عدّت قائمات ائتلافية ..كما أننا نتوقع من جلّ القائمات الحزبية تركيزا ،ولو نسبيا ،على مشاكل الدائرة المخصوصة والحلول المقترحة لها ..
ولكن ستشهد هذه الانتخابات رغم صبغتها المحلية تنافسا سياسيا حادا إذ الرهانات ضخمة هنا ما بين من يريد تثبيت الخارطة السياسية على حالتها الموروثة من انتخابات 2014 ومن يهدف إلى «قلب الطاولة» ولو بصفة جزئية للتأكيد على أن تحولا ما بصدد الحصول في المعادلة السياسية .كما لا يخفى على أحد الرمزية الكبرى للفوز في بلديات ذات كثافة سكانية عالية أو هي عواصم الولايات ولكل انتصار في بلدية من هذه البلديات وقع وطني يحسب له الجميع ألف حساب ..
في هذه المعركة (المعارك) السياسية ستحضر القضايا الوطنية الكبرى دون أن يعني ذلك تغييبا تاما للمسائل المحلية..
معطيات متظافرة تجعلنا نعتقد بأن بعد الايدولوجيا والهوية سيكون حاضرا ولكن ليس بنفس القوة والزخم التي كان عليها الأمر في 2014 وذلك لمسألة واضحة : لا يستطيع نداء تونس أن يعيد الكرة بنفس الاعتداد بعد ان قضى ثلاث سنوات ونصف في تحالف واضح مع حركة النهضة ولكن سيحصل التركيز بتفاوت بين مختلف الجهات على تباين المشاريع المجتمعية من قبل القيادات الندائية والأرجح أن النهضة سوف لن تعمد إلى خطاب إيديولوجي واضح معاكس فيما يتعلق بالنداء ولكن المعركة ستكون أكثر ضراوة بينها وبين الأحزاب الأخرى وخاصة المشروع وآفاق وبقية أحزاب الاتحاد المدني بالإضافة إلى الجبهة الشعبية وقد تنخرط بعض القائمات المستقلة في هذا الصراع الإيديولوجي وخاصة في المدن الكبرى ..
وقد يكون الإشكال هنا هو تحديد تموقع كل حزب والحجم المعقول للجرعة الإيديولوجية في انتخابات محلية كما أننا نتوقع أن تركز بعض الأحزاب على الثنائي النهضة والنداء باعتبارهما وجهين لعملة واحدة وهي الفشل بينما ستجعل أحزاب أخرى من مناهضتها للنهضة خط التمايز الأساسي بينها وبين بقية الطيف السياسي ..
ولكن الإشكال في هذا الاختيار هو أنه يضع النهضة ،مرة أخرى ،في قلب القضايا الوطنية بينما النية هي تحجيمها سياسيا وانتخابيا وثانيا أن حدّة هذا الصراع في بعض الدوائر البلدية ستكون حتما على حساب الاهتمامات المحلية ..
مسألة أخرى نرجح احتلالها لموقع بارز في الصراع السياسي القادم وهي تقييم ثلاث سنوات ونصف من حكم الأغلبية الحالية :فالنهضة والنداء مضطران للدفاع عن هذه المرحلة وإن كان ذلك من مواقع مختلفة بينما ستجعل أحزاب كالجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي وحراك تونس الإرادة وحركة الشعب من فشل الائتلاف الحاكم نقطة الهجوم الأساسية لها والإشكال هنا هو كيف ستتمايز كل هذه الأصوات ! والأرجح أن التيار سيركز على هيمنة لوبيات الفساد بينما سيكون نقد الحراك مركزا على عودة المنظومة القديمة وحكم الثورة المضادة أما الجبهة فسيتميز خطابها باتهام منظومة الحكم بخدمة الفئات المحظوظة والتبعية الكاملة لصندوق النقد الدولي أما حركة الشعب فقد تضيف البعد القومي العربي وتواطؤ الأغلبية الحاكمة لكي لا يجرم التطبيع ..
بالطبع سوف نشهد مزيجا من هذا وذاك عند هذه الأحزاب إذ تشترك جميعها في نقدها اللاذع لمنظومة الحكم ..
أما أحزاب الاتحاد المدني وعلى رأسها المشروع وآفاق والقائمات الائتلافية التي تحمل يافطة الاتحاد المدني فسيكون نقدها سياسيا مع تركيز منتظر على خطر الإسلام السياسي وعلى التوافق المغشوش الذي يحكم البلاد وعلى غياب الكفاءة والرؤية عند حكام اليوم ..
كما لا نستبعد اليوم أن تحتل مواضيع كـ»إقصاء التجمعيين» وضرورة تغيير النظام السياسي من اجل توحيد السلطة التنفيذية عند رئيس الجمهورية والتقليص من استقلالية ونفوذ الهيئات الدستورية بعض الاهتمام في المدن الكبرى خاصة وعند قاعدة انتخابية يفترض قربها من هذه الأطروحات ..
الغريب في كل هذا هو أننا لا نرى إلى حد الآن كيف سيكون الخطاب السياسي الانتخابي النهضوي وعلى أية نقاط محورية سيركز ..وهل ستكتفي النهضة بخطاب عام يحث على ضرورة التوافق لضمان الاستقرار واستمرارية التجربة الانتخابية مع التركيز فقط على التحسينات الضرورية للأداء البلدي ؟ !
أي هل ستفضل النهضة الابتعاد عن ملعب الصراع الإيديولوجي وحصر اهتماماتها في السياسي العام وفي اليومي فقط مع تنديد بكل الاصوات «الاستئصالية» التي تريد إقصاءها من المشهد السياسي ؟
ثم هل سيحصل صراع جدي حول دور البلدية ومعنى اللامركزية واللامحورية أم ستترك هذه المسائل لخبراء الأحزاب فقط ؟
أيام قليلة وتنطلق المنافسة الفعلية وعندها سنرى هل أحكمت الأحزاب والقائمات المستقلة حملتها المضمونية، أم سيكتفي الجميع بالصراعات التقليدية للطبقة السياسية ؟