وحتمية تماما كالجماد والحيوان وكان هذا رأي عالم الاجتماع الفرنسي وصاحب النظرية الوضعية أوقست كونت حتى انه سمى علم الاجتماع بالفيزياء الاجتماعية..
لاشك أننا بعيدون جدا، من الناحية المعرفية، عن هذه الأجواء إذ أثبتت كل علوم الإنسان والمجتمع بأن الفاعل الاجتماعي لا يتحرك وفق قوانين ميكانيكية حتمية ولكن بعض ما يحصل في تونس بعد الثورة يدفعنا إلى الاعتقاد بأن كونت وأترابه لم يكونوا مخطئين بالكلية ..
الثورة أضعفت الدولة لأنها أقصت رأسها وخلخلت بعض دعائمها المعنوية والمادية أي في النهاية سلطتها الطبيعية على المجتمع ..
ولأن الدولة ضعفت استقوت عليها بل وتغولت عليها كل المجموعات والهيئات ، منظمة كانت أو غير منظمة ، وافتأتت على أجزاء من صلاحياتها وحتى من قوتها تحت شعار يمكن أن نستعيره من فيسلوف فرنسي آخر وهو ديكارت : « أنا أتغول على الدولة ، إذن أنا موجود !!»
فما حصل يوم أول أمس بمحكمة بن عروس حيث حاصرها (والكلمة ليست قوية ) مئات الأمنيين بدعوة من إحدى نقاباتهم للاحتجاج على إيقاف بعض زملائهم إنما هو حالة تتوقعها «الفيزياء الاجتماعية» حتى قبل حصولها ..
لاشك أن هنالك خيطا رفيعا بين كل أصناف الاحتجاج أيا كانت مبرراتها وبين أشكال التغول على الدولة ولكن في بلادنا هنالك نقاط تماس كثيرة بين بعض الاحتجاجات والتغول على الدولة بل وفي حالات كثيرة يتحول احتجاج ما إلى حالة تغوّل واضحة لا لبس فيها ..حالة تجد فيها الدولة الضعيفة بداية نفسها اضعف فاضعف بحكم الابتزاز المسلط عليها ونزوعها الطبيعي إلى البحث عن حلّ سلمي مهما كان الثمن ..
ولكن تغوّل بل وتمرد بعض حاملي السلاح – حتى لا نعمّم لأن كل تعميم فيه حيف ضرورة – على الدولة ومؤسساتها السيادية مسألة تدعو للتفكير أكثر من غيرها فالفرق بين احتجاج مواطنين تحول إلى تغوّل على الدولة وما يحدث مثله عند أمنيين يحيلنا إلى فارق نوعي لا كمي فقط ،لأننا في الحالة الثانية أمام تغوّل اليد التي أنيط بعهدتها بسط القانون – أي سلطة الدولة – على الجميع ولو باستعمال مقادير من القوة ..
لا يمكن لأي عاقل إلاّ أن يندد ويشجب بأقصى قوة هذا النوع من التمرد ومن التغوّل ولكن الاكتفاء بمجرد التنديد يجعلنا على حافة الإشكال فقط ولا يسمح لنا بفهم كنهه..
هنالك بعد مأساوي لابدّ من الوقوف عنده لدى كل الفئات والمجموعات التي تتغوّل على الدولة ولكنها لا تريد إسقاطها أو تعويضها وهو بعد المظلومية في كل هذه الحالات .. فكل فئة تتغوّل على الدولة تقول للمجتمع بصريح العبارة : نحن مضطهدون ومستضعفون في هذه البلاد وأن زمن الصمت قد ولّى وانتهى ومادامت الدولة غير قادرة على إنصافنا فسنأخذ حقّنا بأيدينا ..
إنه تنامي الغضب أمام ضعف الأب ودعوة له لكي يستفيق ليعود الأب ذو البطش الشديد ..وأمام تواصل ضعفه يقوم الابن الشقي بطعنه لاكرها له بل حبّا مستحيلا لصورة الأب القوي واستعادة رمزية لبطش معشوق ومكروه في نفس الوقت ..
أي أن جلّ المتغولين على الدولة يحلمون بدولة قوية يكونون هم أبناءها المدللين معنويا قبل كل شيء ويزداد هذا الشعور قوة وعنفا عند من يعتقد انه فقد هذه المكانة الرمزية السابقة في دولة قوية مهابة كانوا هم شوكتها ويدها الباطشة. انه التحول التراجيدي من الدولة القوية الحامية إلى الدولة الضعيفة المحتاجة إلى الحماية والتي تخلت – رمزيا – عن حماية أذرعتها الضاربة..
ولكن ما يغيب عن بعض النقابات الأمنية والتي نوعت وعددت في مظاهر تغولها على الدولة من رفض لتغطية بعض العروض الفنية أو تهديد برفع الحماية الأمنية عن السياسيين والنواب لو لم يمرروا وبسرعة مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات الحاملة للسلاح وآخرها التجمهر أمام المحكمة الابتدائية ببن عروس ..ما يغيب عن هذه النقابات هو أن
استضعاف الدولة والتغول عليها وعلى مرافقها السيادية من قبل من يفترض فيهم حمايتها هو رسالة مفتوحة للجميع بأن «الأمن الجمهوري» شعار تسويقي لا غير وان استباحة الدولة حق مباح للجميع وان كل تكتل بشري بإمكانه فرض الإفلات من المحاسبة لكل أفراده ..وفي هذا يستوي الجميع ..فالكل يأخذ حقه بيده والكل يحمي أبناءه وفق منطق القبيلة الموغل في الزمن ..
يخطئ من يعتقد أننا نشاهد أمام أعيننا شبح عودة دولة البوليس ..إننا بصدد مشاهدة شبح أخطر من ذلك بكثير : ضعف متفاقم للدولة وبروز عهد حكم القبائل ..