والغريب في الأمر أننا لا نطرح البتة هذه الأسئلة عندما يتعلق الأمر بالحريات العامة ، والحال أنها هي أيضا دخيلة على مجتمعنا وأنها كذلك تخضع لحدود القانون..ولكننا حتى وإن قلنا هذا الكلام فنحن لا نقبل بسنّ قوانين تنال من جوهر الحريات العامة وفي ذات الوقت لا نرى حرجا من القوانين الحالية التي تنال بوضوح من جوهر الحريات الفردية ،والحال أن دستور البلاد واضح وصريح إذ يقول في فصله التاسع والأربعين : «يحدد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها .ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام ، أو الدفاع الوطني ،أو الصحة العامة ، أو الآداب العامة ، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها»(..) لقد أوردنا هذه الفقرة من الفصل 49 كاملة حتى لا يكون النقاش انتقائيا وحتى نقر بأن الأخلاق العامة هي من ضوابط الحريات الفردية وكذلك الحريات العامة..
فلا يمكن للفرد (أو للجماعة) أن يفعل (تفعل) ما يريد (تريد)..ولكن الإشكال عندنا هو أن مخيالنا التقليدي المحافظ يريد أن يجعل من هذه الضوابط كوابح مانعة للحريات الفردية في حين أن نص الدستور واضح في عدم جواز المساس بجوهر الحرية وبجوهر ممارستها ..
لا نريد أن نتوقف كثيرا عند مفهوم «الاعتداء على الأخلاق الحميدة» أو «التظاهر بالفحش» والذي عادة ما يلجأ إليه القضاة لمعاقبة سلوكيات تقع بصفة واضحة في خانة الحريات الفردية..
نعود فقط إلى استهجان بعضهم لسلوكيات بعض الشباب والكهول أيضا سواء تعلق ذلك باحترام الطقوس الدينية (صوم رمضان) وخاصة فيما يعتبرونه مظاهر غير لائقة في الفضاء العام كالقبلة على سبيل المثال..مع التذكير بأن نفس المستهجنين لمسك رجل امرأة من خصرها لا يرون مانعا من نفس هذه المظاهر عندما يتجولون في مدن غربية وحتى عربية والحجة الكبرى في ذلك هي مخالفة الحياء والتقاليد..
لنكن صرحاء مع أنفسنا : هل أن الاختلاط من السنة التحضيرية إلى مدارج الكليات والمعاهد العليا هو من صميم ثقافتنا وتقاليدنا ؟ نحن أمام ممارسة تعود ، على الأقصى ، إلى نصف قرن فقط ورغم ذلك أصبح الاختلاط في المدرسة والعمل والفضاء العام هو سمة حياة التونسيين اليوم وكان الانعكاس الأول الجديد هو الصداقات المختلطة منذ الصغر والتي لم تعد مستهجنة منذ عقدين أو ثلاثة بل أضحت مؤطرة عائليا في جلّ العائلات في مدننا الساحلية والداخلية..
فالعائلة التونسية المحافظة لم تعد تتحرج من القول بان الشاب الفلاني هو صديق الشابة الفلانية ولم تعد تمانع من التزاور ومن الاختلاط بين أصدقاء الدراسة داخل المنازل ..
نقول كل هذا لنؤكد بأن التقاليد والأعراف بصدد التحول السريع على امتداد هذه العقود الأخيرة ، وما كان مستحيل التصور في سبعينات القرن الماضي أضحى القاعدة منذ عقد أو عقدين وطبيعي جدّا أن يكون الاختلاط إطارا لبناء علاقات غرامية بين شبابنا وان تعيش هذه العلاقات بأشكال مختلفة في الفضاء العام..فنحن لا نتحدث عن «تقليد» أعمى للغرب كما يحلو لبعضهم بل عن واقع مجتمعنا المتحول..بل ونلاحظ هذه العلاقات الغرامية في جامعاتنا ومدارسنا وحدائقنا العمومية بين الشباب المتدين بما يفيد بأننا لسنا أمام ظواهر معزولة بل امام ظاهرة عامة وطبيعية في مجتمع عصري الاختلاط فيه بين الجنسين هو القاعدة في كل فضاءاته العامة..
فهل نعاقب بالسجن كل مظهر من مظاهر الحميمية بين شابين أو كهلين ؟ !
لاشك أن بعض المظاهر الحميمية غير مقبولة في الفضاء العام لا في تونس ولا في باريس أو روما وان تنقيح أو تغيير ما يبدو زجريا في ترسانتنا القانونية لا يعني البتة اننا سنكون في مجتمع متحلّل وأن مظاهر «الميوعة» ستهيمن على فضاءاتنا العامة..نريد فقط أن يعيش مواطنونا وزوارنا وهم في مأمن من تأويل أمني متعسف لـ«الأخلاق الحميدة» وألا نتوسع كثيرا في ضوابط الحريات الفردية بدرجة قد تمس من جوهر هذه الحريات ..
نحن نتحدث عن مسائل معقدة ومرتبطة بموروثنا الديني والاجتماعي ولكن لابأس أن ننظر في المرآة بكل جرأة وان نقرر جماعيا بأننا نريد الحياة في مجتمع ديمقراطي تحكمه القوانين والمؤسسات وتضمن فيه الحريات الفردية والعامة وقائم على الاحترام : احترام الدولة للحرمة الجسدية والمعنوية للأفراد واحترام المجتمع للحياة الخاصة لأعضائه..
فالاحترام لا يشتغل في اتجاه واحد بدعوى احترام الأخلاق العامة فالديمقراطية تقوم على احترام حقوق الفرد وحقوق الأقليات وهذه طريق طويلة ومعقدة ولا تعارض فيها بين الحريات الفردية والعامة بل هي تتعاضد وتتضامن ومجتمعنا قد خطا خطوات هامة في اتجاه التحرر ولكن تنقصنا أحيانا الجرأة لأقلمة ترسانتنا القانونية مع التطورات الفعلية للمجتمع التونسي..
هنالك اليوم لجنة كلفها رئيس الدولة بإعداد تصور لضمان المساواة والحقوق الفردية وكل أملنا أن تصدر عنها توصيات شجاعة تسمح لنا بتأمين الحداثة المجتمعية المعيشة وتحصننا من كل ارتكاس إلى الوراء .