كثرت التسريبات والتسريبات المضادة حول مشروع قانون المالية لسنة 2018 والسبب الأساسي وراء كل هذا هو أن الحكومة لم تحسم بعد في كل الجزئيات وان النقاش داخلها وبينها وبين الأطراف الاجتماعيين قد يغير من بعض الإجراءات هنا أو هناك..
ولكن يمكن أن نقول بأن الهيكلة الأساسية لهذا المشروع قد اكتملت بعد وأن التحكيمات الكبرى قد انتهت وأننا أصبحنا نعلم ،تقريبا، الخطوط العريضة للوثيقة التي سيصادق عليها مجلس الوزراء يوم 6 أكتوبر القادم..
لعلّ السؤال المحيّر هذه السنة هو: ماهي فلسفة قانون المالية لحكومة الشاهد 2 ؟
يقول المقربون من دوائر القرار الحكومي بأن الهيكل العظمي لمشروع قانون المالية لسنة 2018 هو بداية تطبيق خطة الطريق التي التزم بها يوسف الشاهد أمام مجلس نواب الشعب عندما قدم الفريق الجديد لحكومته أي جملة الأهداف التي نرمي إلى تحقيقها في أفق سنة 2020:
• التقليص من كتلة الأجور إلى %12.5
• بلوغ نسبة نمو تناهز %5
• التقليص من نسبة البطالة بثلاث نقاط على ثلاث سنوات
• النزول بنسبة المديونية دون %70
• الحدّ من عجز الميزانية دون %3
إذن ينبغي أن يكون تقييم مشروع قانون المالية وفق هذه المعايير التي وضعها رئيس الحكومة ،هذا للحكم على تناسقها الداخلي ثم على مدى جدية الفرضيات التي ستستعمدها سواء في نسبة النمو أو خاصة في متوسط قيمة الدينار بالنسبة لليورو وللدولار..
لا احد ينكر الاكراهات الضخمة التي تتعرض لها المالية العمومية خاصة منذ سنة 2013 حيث استهلكنا كل مخزون البلاد السابق وبدأنا نلجأ باطراد متسارع للتداين الخارجي.. وأن هذا التفاوت القوي بين الموارد الذاتية للدولة والإنفاق العمومي في كل مجالاته لا يمكن أن يستمر لأنه يرتهن بوضوح مستقبل البلاد وأجيالها القادمة..
والسؤال هنا هل كانت حكومة الشاهد جسورة في اختياراتها في موازنة السنة القادمة أم غلبت منطق الحذر والإصلاح البطيء ؟
أي هل راهنا على خلق الثروة بالأساس أم على ضمان موارد إضافية للدولة بواسطة الزيادة في الضرائب والاداءات ؟
الجواب عن هذا السؤال ليس سهلا وكل إدارات المالية في كل الدول لا تحبذ إلا الخيار الثاني لأنها لا تعرف حساب إلا ما ستجنيه على الورق أما السياسات الجسورة لدفع نسق الاستثمار – بما في ذلك التخفيض في الضرائب – فالإدارة المركزية للجباية لا تعرف كيف تترجمها إلى موازنة سنوية..
المعطيات الأولية لموازنة سنة 2018 تبين غلبة الحذر الحسابي على الجرأة المستقبلية ..وهذا ما يفسر الزيادة بنقطة واحدة في الأداء على القيمة المضافة وإيجاد ضريبة جديدة تسمى المساهمة الاجتماعية التضامنية بنقطة واحدة على دخل الأشخاص الطبيعيين وهذان الاجراءان سيوفران حوالي 600 مليون دينار سنويا كما أن الأجراء والأعراف سيرفعون في مساهمتهم الاجتماعية بنقطة للأجير وبنقطتين للمؤجر..وهذا بالطبع لا يندرج ضمن قانون الميزانية بل في إطار اصلاح الصناديق الاجتماعية ومنظومة التقاعد.. وكل هذا يعني فقدان حوالي ثلاث نقاط في القدرة الشرائية للطبقة الوسطى..
كما ستعمد الحكومة إلى بداية حل معضلة الدعم بالتمييز في نفس المادة في شكل البيع (كالسكر وقوارير الغاز) فيوجه المدعم للاستهلاك العائلي فقط فيما يُحرم منه كل مستعمل مهني..
قد نتفهم الاكراهات الماثلة وراء كل هذه الإجراءات ولكن نعلم جميعا أن الحلّ الوحيد هو في كسر كل القيود التي تحول دون طفرة استثمارية في البلاد..وأول هذه العوائق هي الإيديولوجية الظاهرة أو الضمنية المعادية للمبادرة الفردية والتي ترى فيها استثراء غير مشروع على حساب الكادحين..
فضرائب إضافية على الأثرياء (كالضريبة على الثروة) وتخفيض الضرائب على المؤسسات الاقتصادية هو عين الجرأة وعين الفاعلية وعين العدالة..
لاشك أن كل المواطنين مطالبون بدفع الضرائب وان الواجب الضريبي هو لبّ عيشنا المشترك ولكن لا ينبغي أن تتحول الضرائب إلى ظهر الحمار الذي نترك فوقه كل شيء بما في ذلك النسق المرتفع لعيش الدولة والذي لم نتخذ إزاءه إجراءات شجاعة للتقليص منه..كما لا نفهم لم تذهب ضرائب المواطنين لتمويل بعض المؤسسات العمومية التي أضحت تمثل عبئا على المجموعة الوطنية بأسرها وهل ينبغي لنا عقد من الزمن لكي نواجه هذه الوضعيات الغريبة ؟!!
ثم كيف سنبدأ فعليا في إدماج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد المنظم ؟
منذ سنة 2014 يأتينا كل قانون مالية أصلي أو تكميلي بإجراءات ضد التهريب والاقتصاد الموازي..فهل قيّمنا مردودية كل هذه القرارات ؟ وهل أنجزنا خطوات على الطريق الصحيح أم بقينا نراوح نفس المكان ؟ فدون تقييم جدوى السياسات العمومية السابقة ما الفائدة في إجراءات جديدة هي بدورها لن تقيم في المستقبل ؟ !
هنالك اجراء ايجابي لابد من التنويه به في مشروع الحكومة الأوّلي وهو المراجعة الجذرية للنظام التقديري الذي أثبت ضعف نجاعته وقلة عدالته..ولكن الفلسفة التي قام عليها النظام التقديري كانت ترمي إلى تيسير الدخول للاقتصاد المنظم لجملة من المهن والحرف والخدمات..والنظام التقديري هو في الأصل نظام مؤقت في الزمن لكل ناشط اقتصادي دخل فيه
وعلى هذا الأساس قد يكون من الأفضل التطبيق الكلي لفلسفة النظام التقديري دون إلغائه : أي تحفيز كل ناشط اقتصادي مبتدى لاسيما في مجالات الحرف والمهن والخدمات الصغيرة ثم ولوجه إلى نظام حقيقي بعد أربع سنوات كما ينص على ذلك القانون..وهكذا قد يكون النظام التقديري عنصر تحفيز للناشطين في الاقتصاد الموازي شريطة اتخاذ سياسة ردعية قوية تجاه المخالفين..كما كنا ننتظر- منذ زمن طويل – إطلاق ثلاثة أو أربعة مشاريع كبرى تغير وجه تونس في العقود القادمة كإنشاء عاصمة إدارية جديدة أو مدن للصناعات الثقافية (الكتاب ..الموسيقى..السينما) او مدن جامعية جديدة تضم شتات معاهدنا العليا وكلياتنا داخل وحدات ضخمة توفر الشروط العلمية والبيداغوجية لتعليم عال يستحق اسمه..
وهذه المشاريع الكبرى الضخمة ليست مشاريع ذات مردودية اقتصادية فقط بل إنها أدوات عملية لهيكلة حلم مشترك.
كنا نتمنى كذلك جرأة اكبر في خلق طبقة جديدة من المستثمرين في المناطق الداخلية تفعيلا لمبدإ التمييز الايجابي الوارد في الدستور..
الحذر واجب في كل حال خاصة عندما يتعلق بالمالية العمومية ولكن الجرأة والطموح والحلم هي التي تغير الواقع اليومي للتونسيين وتوفر في المدى المنظور الحلول الجذرية لأزمة المالية العمومية ..
أخشى ما نخشاه أن نكون أمام قانون مالية يطلب التضحيات دوما من نفس الأصناف : الأجراء والمؤسسات الاقتصادية المنظمة دون أن يعطي كل الإمكانيات القانونية والإجرائية والمادية للانتعاش الاقتصادي الفعلي..