لم نعد نستغرب انطلاق موسم «قنص» الفنانين والفطارين والمخالفين لقانون «الحياء» و«النظام العام»... فما أكثر الذين نصّبوا أنفسهم حراسا للشريعة وممثلين للإسلام الحق ومنافحين عن المقدسات. والواقع أنّ بروز مثل هذه الممارسات متوقع باعتبار أنّ الدستور الجديد لم ينبثق من القاعدة ولم يعكس بنية ذهنية استوعبت فكر الحداثة بل كان ثمرة تفاوض ومقايضة وتلفيق وترميم وتوفيق وضغوط وفق موازين فكان نتيجة ذلك مولودا هجينا معبّرا عن مأزق المواءمة بين الدولة المدنية وما تقتضيه من تكريس لقيم العصر الحديث من جهة، ومبادئ الدولة الإسلامية المتخيلة التي تأسر الفرد في تصورات محددة، من جهة أخرى.
ولا نبالغ إن اعتبرنا أنّ الدستور الجديد مثله مثل غيره من الدساتير العربية يعرّي الأزمات التي يتخبط فيها «الإنسان المعطوب» فهو يعيش «البَينِية» في أبرز تجلياتها .إنّه ينوس بين زمنين الماضي والحاضر: زمن البدايات والعصر التدشيني حيث هيمنة النصوص على المعيش والزمن المعاصر حيث يسود فضاء معرفي له خصوصياته .فلا غرابة والحال هذه أن ينتشر الرياء الديني والاجتماعي وأن يظهر حزب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وأن تطل علينا نقابة الأئمة لتقوم بقراءة نقدية للأعمال الفنية وتحاكم الفنانين، ولا عجب أن يطوّر أصحاب العمائم أساليب الحرب على «بني علمان» فلا يستعملون عبارات «الله أكبر» وا إسلاماهم ويلجؤون في مقابل ذلك إلى القانون والعدول المنفذين والبيانات والعرائض وأن يعرّفوا أنفسهم بالناشطين وأن يوشّوا خطاباتهم بمصطلحات حقوقية: فباسم المواطنة تنصب محاكم التفتيش وباسم الفصل السادس من الدستور يجرّم المختلف وتحت غطاء الحملات يعنّف المغاير، وباسم الحداثة المادية يشهر بالمفطرين باستعمال التكنولوجيا والميديا... وتلك لعمري تجليات فقه الحيل والبحث عن المخارج أو لنقل الحداثة الشكلانية الوهمية التي يتعمّد أصحابها اجترار مصطلحات ما فلحوا في فهم أسباب نشأتها وتطورها عبر العصور. وهكذا تغدو مصطلحات ‹الدولة المدنية› ودولة القانون والحداثة والحرية والمواطنة والمساواة... مصطلحات فضفاضة قد يراها البعض متجسدة في الواقع في حين يعتبر البعض الآخر أنّها في عداد التخييل مرتبطة بالواقع التخييلي.
يعرّي الفصل السادس من الدستور أزمة التأويل : تأويل النصوص القانونية بربطها بأفق معرفي ديني اكتست فيه دلالات الحرية والمساواة والكرامة ...حمولات فكرية مختلفة تماما عن الفضاء المعرفي المعاصر. كما أنّ الفصل الـ6 يفضح المخاوف التي هيمنت على الناس : الخوف من الآخر المختلف ، والخوف من سقوط الحدود الفاصلة بين الطهر والنجاسة ، والخوف من ضياع الهوية وضياع الإسلام و لغة القرآن وانتهاك المقدسات، والخوف من الاستفزاز...والخوف على المكتسبات ، والحريات والخوف من الناطقين نيابة عن الله والخوف من أصحاب الدجل والفكر الخرافي والخوف من طلاب السلطة باسم الإسلام والدفاع عن المقدسات... وما استبداد الخوف بالتونسيين إلاّ حجّة على بنية علائقية اجتماعية متأزمة يغدو فيها العيش معا عسيرا.
أمّا ما نراه اليوم من ممارسات يرغب أصحابها في مراقبة الناس والتدخل في شؤونهم الخاصة فإنّها فاضحة لحرص البعض على الهيمنة على الفضاء العمومي، وتؤشر في ذات الوقت، لبروز ‹قضاء الشارع› والعودة إلى مرحلة ما قبل المواطنة. وما حلول فئات تنصّب نفسها بديلا لدولة المؤسسات والقانون إلاّ علامة أخرى على إضعاف الدولة واتساع دائرة العنف.
إنّ مستقبل الحريات الفردية في تونس لا يحلّ بالتدافع الاجتماعي والتلاعب بتأويل القانون، وفرض الوصاية على الناس ونشر قضاء الشارع، وممارسة العنف والعنف المضاد، والبرامج الإعلامية المهووسة بالإثارة... بل بحوار مجتمعي معمّق ورصين وإعلام مسؤول وقادر على تفكيك مكونات الثقافة وتحليل مقومات فلسفة الاختلاف...وطالما أنّ الفرد لا يمارس حقه في الاختيار الحر والمسؤول ولا يجاهر بحقه في الحرية فإنّ المعركة مستمرّة.