التي لا تساس إلاّ بالعصا الغليظة والحزم. وما إن رفع شعار «الشعب يريد» حتى تغيّر الحال فأضحى الجميع يتكلّمون مع الشعب، ويريدون خدمة الشعب، والتعبير عن هموم الشعب وتحقيق مصالح الشعب، والسفر إلى الخارج لتمثيل الشعب...وعاينّا طيلة السنوات الأخيرة من يتحدث عن الشعب العظيم ، ويفتخر بإنجازات الشعب المعجزة... وشيئا فشيئا تغيّر موقع الشعب ليتحوّل من الهامش إلى المركز. ولكنّ الانشقاقات والتصدعات والاستقطاب الأيديولوجي سرعان ما ألقى بظلاله على الخطاب فبتنا نصغي إلى خطاب سياسي موجّه إلى شعب النهضة، وآخر موجّه إلى الجمهور النقابي «شعبنا»...
والثابت أنّ مسار توظيف «الشعب» في الخطاب السياسي لم يتوقّف. فها نحن مع فاعلين مختلفين يجمعون على أنّ الشعب «متخلّف» ولم ينضج ولا يفهم ولا يدرك .. .وتذكّرنا هذه الأحكام الصادرة بشأن الشعب الذي يخرج محتّجا ومطالبا ومتمرّدا ... بما كان يطلق قديما على العوام. فهم الرعاع والغوغاء والدهماء والهمّج والسفلة وأتباع كلّ ناعق ... ولكنّ الفارق بين عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفّان وغيرهم من الساسة أنّ هؤلاء كانوا يخاطبون القوم بهذه العبارات في إطار التقريع والتوبيخ ولا يجدون أدنى حرج في ذلك.
أمّا الفاعلون السياسيون في بلادنا فإنّهم يتفوهون بهذه العبارات في الكواليس والمجالس الخاصّة ويخشون المجاهرة بهذا التصوّر أمام الملأ ، وخاصّة وسائل الإعلام. فتكثر شكواهم من الغوغاء التي تقطع الطريق وتتصرّف بهمجية ولا تصغي إلى المسؤولين ولا تتوانى عن استعمال ألفاظ نابية وتصرفات غير لائقة. وقد أفضى توتر العلاقة بين القياديين والجماهير إلى ظهور سلوك ومواقف جديدة .فبات عدد من المسؤولين يتهربون من مواجهة «الرعاع» حفظا لمراتبهم وحتى لا يختلطوا بالغوغاء، وصار البعض الآخر يتمارض أو يتحصن بمكتبه «تاركا أهل البلا في البلاء» وشاع القول بين عدد من النواب والوزراء: إنّ أشدّ عقوبة هي أداء الزيارات الميدانية للتفاوض مع «الهمّج» باسم الحكومة وفض النزاعات فالرعاع لا يقبلون الإصغاء إلى علية القوم وما عادوا يكنّون الاحترام لأيّ مسؤول... فمن الذي يقدر على التطويع واللجم والتحّكم..؟
لقد مرّت على البلاد التونسية سنوات عجاف جعلت العيشة ضنكا ومع ذلك كانت الشخصية الكاريزماتية التي تتقن فنّ الخطابة وتتقمّص دور الحكيم القادر على تبكيت الخصوم وسدّ المنافذ والإفحام ... حاضرة في المتخيّل الجمعي. فقد استطاع بورقيبة التخفيف من حدّة الأزمات واحتواء الجماهير بخبثه حينا وبقدرته على التنصّل من المسؤولية في أكثر الأحايين... ومع ذلك يتندّر التونسيون بمواقفه ويعيدون الاستماع إلى خطبه التي تطالب القوم بالصبر على ضيق الحال والعمل وبذل الجهد وتحديد النسل ...
أمّا اليوم فالساحة تفتقر إلى السياسي/الخطيب القادر على التواصل مع الشعب وإلى السياسي العبقري القادر على صناعة «الأنموذج»... يتساوى الجميع: بإسلامييهم ويسارييهم وليبرالييهم ...الكلّ عاجز عن إقناع الجموع بأن الحلول محدودة وأنّ مسار الإصلاح معقّد وأنّ الحرب على التهريب والإرهاب والفساد لن تقوم نظرا إلى التداخل بين القوى السياسية والحزبية والمالية والإعلامية. فما الذي بقي بحوزة هؤلاء السياسيين الذين جرّدوا من سحر الخطاب وهيبة الحضور وعبقرية ايجاد الحلول؟
لقد تأخّرت المكاشفة وغابت الشجاعة والإرادة الحقيقية وانقطعت السبل... توهم التونسيون أنّهم شعب عظيم يحسب له ألف حساب ... ظنّوا أنّهم سيشاركون في صياغة المصير ووثقوا في خطاب مسؤولين وعدوهم بالديمقراطية التشاركية وبحلول عهد الحوار في الفضاء العمومي على الطريقة «الهابرماسية» وبالشفافية والحوكمة الرشيدة ولكن سرعان ما أدركوا أنّها كانت مجرد مسرحية لها ركح وللمؤدين أدوار...كتب النصّ وتمّ التصرّف فيه ولاح الاقتباس فمن يعيد ثقة التونسيين في المسؤولين؟