لاشك أن الحياة السياسية لا تخضع لقوانين ميكانيكية صارمة كما اعتقد ذلك مؤسس الوضعية الكلاسيكية أغوست كونت ولكن لا مفر من الإقرار بخضوعها لاتجاهات عامة حتى وان تلونت وتغيرت المعطيات البشرية والميدانية لكل بلاد على حدة..
فمن هذه الظواهر العامة اختراق لوبيات الفساد والمافيات المحلية للطبقة السياسية في كل مرحلة انتقالية .. ومنها أيضا عدم استقرار الحكومات والأغلبيات والتحول المستمر في المشهد الحزبي وفي توازناته الانتخابية من سنة لأخرى.. ومنها أيضا تداخل السياسي مع العائلي في مشهدية مضحكة ومرتبكة في جل الحالات..
ومن المظاهر الطاغية كذلك عودة الحرس القديم في لباس جديد إمّا بتغير اليافطة الخارجية فقط، وقد حصل هذا في عدة بلدان في أوروبا الوسطى والشرقية ، أو بالاندماج في كائنات حزبية جديدة ثم السيطرة عليها تدريجيا ، وهذا حاصل عندنا بوضوح..
تتميّز هذه المراحل الانتقالية بصراعات عديدة حول «الشرعية» و«المشروعية» .. شرعية «الثوار» و«مشروعية» «الأزلام» وكذلك كثيرا ما سقطت حكومات بفعل مناورات أحزاب الحكم ذاتها وتناحرها حول «شرعية» كل مكون من مكوناتها ..
كائنات سياسية غريبة تبرز في هذه المراحل الانتقالية .. كائنات لا ماضي لها ولا مستقبل تعيش فقط على أوهام اللحظة الحاضرة..بعضها حامل لثأر شخصي دفين وبعضها الآخر ينتمي لرهط المستثمرين في الأزمات والحروب وينتعش في غياب القانون وضعف الدولة ..
والفترات الانتقالية تفجّر طموحات شخصية وفئوية استثنائية فتبرز كائنات متورمة الأنا تعتقد أنها خلقت للقيادة وأنها الخير كلّه وأنها جاءت لتملأ الأرض حقا وعدلا..
كل هذه المظاهر وغيرها أيضا خبرتها بلادنا خلال هذه السنوات الست.. بعضها انقشع منذ سنتين أو ثلاث وبعضها الآخر يشغل الناس اليوم وبقدر تفاقمه الظاهري تكون نهايته ونهاية المرحلة الانتقالية معه..
لا ينبغي أن يكون المرء قارئا لقرامشي لكي يدرك بأننا أمام عالم قديم يموت وعالم جديد يولد من رحمه .. ولكن ولادته عسيرة وهي تسمح من حيث لا تدري بخروج كائنات مشوهة غريبة تريد أن تقنعنا بأنها هي العالم الجديد.. ولكن سرعان ما تتبخر كالفقاعة التي لا تملك عناصر البقاء في ذاتها..
عندما نوسع دائرة النظر إلى التجربة الإنسانية الحديثة في الانتقال الديمقراطي يتنسب كثيرا شعور الإحباط الملم بجلّ فئات مجتمعنا جراء هزال ومهزلة المشهدية السياسية الحالية .. ونحن عندما نقول هذا ندرك جيّدا أن الكثيرين من الذين انخرطوا في الفعل السياسي بعد الثورة إنما فعلوا ذلك حبّا في بلادهم ورغبة منهم في المساهمة في بناء حاضرها ومستقبلها..
ولكن هذه الكائنات المشوهة تمكنت من مفاصل هامة في هذا المشهد وأساءت بذلك إلى كل المنخرطين النزهاء فيه..
عزاؤنا جميعا بأننا أمام غثاء كغثاء السيل وأنّ فقط ما ينفع الناس هو الذي يمكث في الأرض..