منحوا ولم ينتظروا المساعدات من الحكومة، وكان همهم الأكبر إنجاح مسيرة التعليم وإنقاذ الآلاف من الأمية المستفحلة والفقر، والتخلف وتمكينهم من مسلك يضمن لهم الارتقاء الاجتماعي. وترتب عن نهوض المربين بكلّ هذه الأعباء تحوّلهم إلى نماذج يقتدى بها وتمتعهم بالاحترام والتقدير واحتلالهم موقعا رمزيا لا يقل أهمية عن أعيان البلد كالوالي والمعتمد.. امتلكوا سلطة فكان التلميذ يفرّ حتى لا ينتبه «سيدي المدير أو سيدي المعلم» لما يقوم به من أعمال تتعارض مع القيم السائدة فيؤدبه في الشارع قبل المدرسة... وهكذا احتل المربون موقعا في الذاكرة الجمعية وكان الواحد يفتخر بأنّه تربى على يد فلان.
ولكن ها نحن أمام مشهد جديد: فئة على قلّتها، تقتدي بمن مضوا وتواصل المسيرة بكل عزم وإصرار... نراها تنحت في الصخر حتى تؤدي مهمتها بالرغم من الظروف الصعبة والعراقيل والتحديات وينطبق عليها القول «كاد المعلّم أن يكون رسولا» وتتجاوز مع هذه الفئة «جماهير» آثرت الفصل بين المهمة التربوية والمهمة التعليمية، وما عادت تنظر إلى العملية البيداغوجية باقتناع ... معلمون وأساتذة اضطروا إلى التدريس وهم بالعمل التربوي كافرون وبالتواصل مع التلاميذ كارهون فلا غرابة أن يراعوا مصالحهم قبل مراعاة المشروع المعرفي. وعندما يتحول التعليم إلى تجارة مربحة فلا تسل عن دواعي التغيير الحاصل في المنظومة القيمية ولا عن أسباب العنف المستشري في المؤسسات التعليمية .فحين يصبح التلميذ رقما يحتسب في المعادلة لا تطلب منه أن يقدّر أستاذا/ة يأخذ منه مقابلا ماديا ويعطيه في المقابل موضوع الامتحان، ويظلم بقية التلاميذ الذين قاوموا تهديداته... وعندما يتحول التعليم إلى «بسنس» فلا تطلب تحسين ترتيب تونس...
وحين «يستقيل» الأولياء من مهامهم ولا يجد «فلذات أكبادنا» الأسرة المتماسكة والمهتمة بالتربية والحريصة على بناء علاقات سوية مع الجميع فلا تستغرب انتشار «المزطولين» والمنحرفين في مؤسساتنا... وحين يفتقر أولادنا إلى النماذج القيادية ولا ينظرون إلى المربين بعين التقدير ويتندرون بسلوكهم ونفاقهم وكذبهم.. فلا تفرض على التلاميذ أن يتحلوا بالأخلاق الفاضلة.
لابد إذن من الإقرار بأنّ مؤسساتنا التعليمية قد تحوّلت في الغالب، إلى فضاء عاضد للشارع تنطبق عليها نفس المعايير الشائعة في الفضاء العام، وتنتشر فيها نفس الممارسات. فمع كل موعد دخول «هات دينار» وإلا هبت المجموعة لتلقنك درسا والويل كل الويل لمن لبس ساعة أو حمل نظارة شمسية من نوع فاخر ولا تسل عن شراء بطاقات الدخول... وقبل أن ننظم أيام الغضب، ونهدد بسنة بيضاء علينا أن نعيد النظر في مفهوم أساسي: «التبوريب الذي ينتج البانديا».
«تبوريب الباندية» في بلادي بات «ثقافة فرعية» قائمة الذات لها قاموسها وقيمها ونواميسها واختبارتها ولها أنصارها من النساء والرجال، والكبار والصغار، والفقراء والأغنياء وهي تتسلل في كل المؤسسات «جهار بهار» يمارسها أصحاب المعالي بأسلوب «حضاري» يستر المكشوف في حين يمارسها الآخرون بأساليب فجّة. فهل سنتحوّل إلى «دولة البانديا والفساد»؟