فبعد الاختراق الصهيوني لأراضينا وبعد تأكد صورة أن تونس هي أول بلد مصدّر للإرهابيين وبعد الجدل الساخن حول عودة هؤلاء من بؤر التوتر ها نحن أمام ملف جديد وهو العنصرية الخافتة والعنيفة في بلادنا على خلفية اعتداء على ثلاثة طلبة من الكونغو في نهاية الأسبوع الفارط وكذلك اليوم الوطني لمناهضة التمييز العنصري الذي التأم يوم أمس بالعاصمة...
والسؤال الذي نحس به على شفاه عديدة... لمَ هذه المبالغة؟ قد تكون هناك بعض التصرفات العنصرية المعزولة فلمَ السعي لإيهامنا بأنها، هي الأخرى، من أمراض مجتمعنا اليوم؟!
فعلا لقد تأسس المخيال التونسي الجماعي على فكرة أننا شعب متسامح وذو مزاج معتدل لا يحبّ الغلوّ والتطرّف في أي شيء وأننا تعايشنا مع الأقليات الدينية والعرقية في وئام طيلة القرون الخوالي...
ثم ألسنا نحن الذين ألغينا العبودية منذ سنة 1846 قبل العديد من الدول الغربية؟! وحتى وضع الرقيق عندنا كان أفضل بكثير من وضعهم في كل الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وذلك بشهادة كتب الرحالة الغربيين في القرن التاسع عشر...
ثم هل يوجد بين ظهرانينا حزب عنصري واحد أو تيار فكري واحد يدعو إلى العنصرية؟ فلِمَ نستورد «قضايا» تصدق على مجتمعات أخرى (غربية وعربية) ولا تصحّ علينا...؟!
بمثل هذا التصور نطمئن أنفسنا ونعتبر أننا كشعب غير معنيين بواجب مناهضة التمييز العنصري حتى وإن اعترفنا بإقدام بعضنا على أعمال مشينة أخلاقيا وقانونيا...
ولكن الحقيقة تختلف كثيرا عن هذا التصور الوردي والنرجسي لذواتنا... لا شك أننا لا ننتمي لدائرة البلدان التي تشهد بصفة دورية اعتداءات عنصرية عنيفة تصل إلى حد القتل الفردي أو الجماعي ولكن لدينا عنصرية «لايت» منغرسة في اللغة والثقافة والممارسات...
عنصرية مبنية على أوهام التمييز بين البشر على أسس العرق والدين والجنس ونضيف إليها أصنافا أخرى من التمييز كالتمييز بين الريف والمدينة وبين الجهات الساحلية الكبرى وبقية مناطق البلاد والتمييز الاجتماعي...
ولكن الأخطر ما في هذه العنصرية الكامنة في مخيالنا الجماعي هو عدم وعينا بها بل ونفينا لها وادعاء أننا منها براء وأنها لا تمثل بالمرة مشكلا في تونس...
فعلا العنصرية لا تمثل أي مشكل في تونس بالنسبة لكل من لم يكتو بنارها... أما أولئك الذين يواجهون بها في حياتهم اليومية من سخرية وازدراء وعبارات نابعة من القاموس التمييزي القروسطي وعنف رمزي ومادي اخترق كل المؤسسات وكل الأوساط.. هؤلاء المواطنون يشعرون بالضيم في بلادهم... ولا يهم إن كان عددهم كثيرا أو قليلا... فتألم تونسي واحد لتمييز عنصري أمر لا يطاق ولا يُحتمل وينبغي أن نعمل جميعا ضده....
هذا عندما نتحدث عن أبناء البلد... أما عندما يكون الأسود في بلادنا وافدا علينا من دولة إفريقية أخرى فهو عادة ما يتعرّض إلى تمييزين مضاعفين ومتضامنين:اللون والوطن معا...
وسواء أكان الوافد طالبا أو عاملا أو إطارا ساميا... ينبغي أن نعلم أنه يكفي لكل إنسان أن يتعرض لاستفزاز عنصري مرة واحدة طيلة إقامته بين ظهرانينا لكي يحس بعدم الراحة والاطمئنان... فما بالك إن صاحب الاستفزاز الابتزاز والعنف.
ولكن لكي نتمكن من مقاومة كل هذا لا بد أن نسلّم بداية بوجود هذه الآفة الخبيثة وأن نقتنع بأن الترقي الإنساني والروحي يقتضي مقاومتها واجتثاثها من مخيالنا العام ومن لغتنا ومن سلوكنا اليومي...
فثورتنا تبقى منقوصة ما لم تجعل من محاربة كل أنواع التمييز بين البشر (سواء أكان ذلك لاعتبارات دينية أو عرقية أو جنسية) نبراسها القيمي والأخلاقي...
والقيم تحتاج إلى ثقافة ترعاها وإلى قوانين تحميها كذلك..