بوصفه استجابة لحاجة الولايات المتحدة إلى تحديث بنيتها التحتية في مجال الطاقة، عبر خطة وُصفت بأنها مدخلٌ نحو طاقة نظيفة ومستقرة، تُوظَّف فيها تقنيات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات العملاقة. ولم يخف هذا التسويق عمق التحول الذي تُمثّله هذه الاوامر الاربعة.
وراء الخطاب والمصطلحات التقنية، كشفت خطوة إدارة ترامب عن منعطف استراتيجي، أبرزُ عنـاوينه الإعلان ضمنيا عن انتهاء مرحلة ضبط النفس النووي واستئناف لسباق التسلح، من بوابة تتداخل فيها الطاقة والذكاء الاصطناعي بالرادع النووي، مما يعني أننا أمام إعادة تعريف لـ«الاستقرار العالمي» كمفوم مقترن بالقوة.
رغم أن إدارة ترامب سعت إلى ترويج أوامرها الأربعة، الصادرة يوم الجمعة الفارط، باعتبارها جزءًا من خطة لتحديث البنية التحتية الطاقية، الا ان مضامينها تكشف عن غايات تتجاوز المجال المدني. ذلك ان تعديل صلاحيات لجنة التنظيم النووي (NRC) لا يهدف إلى تسريع الابتكار فقط، بل إلى تخفيف الأطر الرقابية التي ظلت، لعقود، صمّام أمان ضد الانزلاق نحو الاستخدامات العسكرية للتكنولوجيا النووية.
وتدفع الأوامر إلى إعادة تنشيط القاعدة الصناعية النووية، عبر تحفيز الاستثمار في سلاسل التوريد وتسريع بناء المفاعلات داخل الأراضي الفيدرالية، بما في ذلك المنشآت العسكرية ومراكز البيانات وذلك ضمن خطة اشمل تسعى إلى مضاعفة إنتاج الطاقة النووية أربع مرات بحلول عام 2050، وتعيد هذه الخطة إلى الأذهان مناخ الحرب الباردة التي وقع فيها التسويق للسباق النووي على انه سعى الى تحقيق فرص تنموية، اي اننا قد نكون اما م اعادة انتاج لذريعة تنموية توفر غطاءً لرهانات الردع والتفوق العسكري.
ما تحمله تفاصيل الاوامر الاربعة، خاصة السماح ببناء مفاعلات متقدّمة داخل منشآت عسكرية، خطوة لتكريس الطابع المزدوج للتكنولوجيا النووية، التي وإن قُدّمت لعقود كأداة تنمية الا انها ظلّت في جوهرها مرتبطة بإعادة تشكيل موازين القوة والنفوذ بين الأمم. فالرهان لم يكن يومًا على كهرباء رخيصة، بل على القوة واحتكار حق التهديد.
إحياء هذا السباق القديم تبرزه التفاصيل التي وردت في الأوامر، ومنها قرار السماح ببناء مفاعلات متقدمة في منشآت عسكرية، بما يؤكد الطابع المزدوج للتكنولوجيا النووية، التي حتى وإن قُدّمت خلال السنوات الثلاثين الفارطة على أنها فرصة للتنمية، الا ان كل خطوة في مسارها، وكل تطور، كان يعيد تشكيل ميزان القوة والنفوذ الدوليين، لا إنتاج الكهرباء الرخيصة.
ذلك لم يتغيّر اليوم، رغم الخطاب الرسمي الأمريكي، الذي لن يقنع القوى الدولية الأخرى بالطبيعة السلمية لهذا الخيار الأخير، خاصة وأن الإدارة الأمريكية تسعى إلى توظيف التكنولوجيا النووية والذكاء الاصطناعي بهدف توجيه رسالة فعلية إلى بقية العالم، مفادها أنها تظل القوة النووية الأكبر والأكثر تجدّدًا وابتكارًا، بما يعني بشكل مباشر أن النووي عاد إلى قلب السياسة الكبرى.
هذه العودة ليست معزولة. ففي السنوات القليلة الماضية، اما بإقدام الصين على مضاعفة صوامعها النووية بالإضافة إلى تطوير نظام «الضربة الثانية»، أو في تلويح روسيا باستخدام سلاحها النووي، فضلًا عن تحديث أنظمتها الفرط صوتية مع تفاصيل لعل أهمها عودة الحديث عن الأسلحة النووية التكتيكية في العواصم الثلاث وتطوير بعض الأنظمة العسكرية التي يمكن استخدامها في التسليح النووي، مع بروز نقاشات عن تحديث العقيدة النووية بما يسمح بمراجعة مفهوم الردع ليكون جزءًا من ديناميكية هجومية، وليست دفاعية.
ما تعنيه الأوامر التنفيذية الأربعة الصادرة عن ترامب اليوم، أن العالم ليس مقبلًا على استئناف سباق التسلح الكلاسيكي فقط، بل هو مقبل على سباق تُراجع فيه العقيدة العسكرية، بما يجعل من استخدام السلاح النووي احتمالًا معقولًا في صراعات محدودة، في ظل الاختراقات الكبرى في تكنولوجيا التصويب أو التسليح والتي تسمح بإنتاج أسلحة نووية ضعيفة القدرة ومحدودة التأثير والضرر.
هذا ما يجعل المرحلة التي نقبل عليها أشدّ خطورة من سنوات الستينات وأزماتها، وما عُرف بسنوات الرعب النووي، التي افرزت نوعًا من التوازن بفعل قدرة طرفَي الحرب الباردة على التدمير المتبادل. ونحن نواجه اليوم، وفي ظل إمكانية إنتاج أسلحة نووية صغيرة ومحدودة الأثر، وتوظيف الذكاء الاصطناعي والفضاء، والاعتقاد بأن الاختراقات التقنية تمنح قادة الدول هوامش للمناورة والاستخدام «الآمن» للسلاح النووي، خطرًا من نوع جديد.
ذلك مكمن الخطر، الذي يتمثل في أن القوى الكبرى باتت تُلوّح بأنها ستلجأ إلى الاستخدام الفعلي، ولو بحسابات تكتيكية لقوتها النووية، بما يعني أن الحاجز الأخلاقي والسياسي، الذي حافظ على العالم منذ هيروشيما في طور التآكل. ويتزامن ذلك مع انهيار الاتفاقيات الدولية وغياب أطر تفاوضية جديدة.
لذلك، قد تدفع النهضة النووية الأميركية بقوى اخرى الى المسارعة بتقليد هذا النموذج الذي يعيد احياء السباق النووي بدوافع تنموية، وقد تستغل ازدواجية الاستخدام النووي مظلة للتبرير ومعها سيتوسع الهامش الرمادي بين الاستخدام المدني والاستخدام العسكري.
في هذا المناخ ربما قد يكون التحدي وجوديا واخلاقيا في السنوات القادمة.