كافون وجيل الثورة التونسية: كسر احتكار الرمزية والمعنى

بوفاته، كشف الفنان احمد العبيدي «كافون» عن ان الثورة التونسية لم تغيّر النظام السياسي

واليات صعود نخب الحكم فقط، بل غيّرت كذلك طريقة إنتاج الرموز والجمالية وتوزيع المعنى داخل المجتمع. ليكشف الراحل انه كان صوتًا تعبيريًا عن شريحة من التونسيين دفعت الى الهوامش، قبل أن تفرض نفسها بعد 2011 في مركز الساحة الرمزية وفي عملية انتاج المعنى والجمالية.

هذا الربط كشف عنه نعي جزء واسع من التونسيين ورثاؤهم لـ أحمد العبيدي الذي وافته المنية يوم السبت الفارط، وكشفوا عن تحوّلات عميقة شهدتها تونس في اليات انتاج التعبيرات الجمالية والفنية والمعنى.

طيلة عقود، كانت الدولة ومؤسساتها الرسمية تحتكر تعريف «الفنان» والفن وهي التي تمارس الهيمنة وتفرض ذائقتها وجماليتها المؤسساتية عبر سيل من الاجراءات والامتيازات عبر منظومة الدعم او البرمجة في المهرجانات او السماح بالولوج الى وسائل الاعلام العمومية الخ…

برزت ملامح تحدي الهيمنة على الفضاء الرمزي والجمالي قبل الثورة عبر انماط فنية وتعبيرات موسيقية جديدة وجدت نفسها بعد الثورة، تكسر هذا الاحتكار تدريجيًا، بعد ان باتت لها شرعية رمزية، لا تستند إلى الاعتراف الرسمي، بل إلى القبول الشعبي، خاصة من فئة الشباب. بذلك يرز مغنو الراب مع انماط موسيقية تعرف بـموسيقى الاندرغراوند».

في هذا السياق وكنتيجة للثورة والتطور التكنولوجي ، أصبح فنانون مثل «كافون» يعبرون عن لحظة اجتماعية أكثر من تعبيرهم عن اتجاه فني محدد. لم تكن أغانيه نتاج مشروع موسيقي أكاديمي، بل كانت نابعة من التجربة الحياتية المباشرة، من الشارع ومن صراع يومي مع البطالة و الفقر وانسداد الأفق. شأنه شأن عشرات الفنانين الذين عبروا عن مشاغلهم وتجاربهم وصراعاتهم الشخصية مما جعلهم يحظون بجمهور واسع، وجد فيهم الممثلين الحقيقيًن لهم، والذين يعبرون عنهم بلغتهم وتناقضاتهم وآمالهم المجهضة.

هذا التحوّل الجوهري الذي أفرزته الثورة لا يتمثل في ظهور رموز من خارج اطر واليات النظام فقط، بل كذلك في انتقال مركز ثقل الثقافة من النخب إلى الشارع. أصبحت النماذج الجمالية واللغوية لا تُصنع في المنابر الثقافية التقليدية، بل على «يوتيوب»، و«فايسبوك»، وعلى منصات الإنتاج الذاتي. لم يكن «كافون» حالة استثنائية، بل تجسيدًا لاتجاه أوسع يربط بين الحرية الفنية والتحرّر من الوساطة المؤسساتية.

تحوّل لم يكن دون معنى سياسي، حتى وإن لم يحمل خطابا سياسيا مباشرا. إن صعود رموز من الأحياء الشعبية، بلغتهم الخاصة، ورفضهم لسلطة الذوق الرسمي، هو في حد ذاته تعبير عن شكل من أشكال إعادة التوزيع الرمزي للسلطة. إنها مطالبة ضمنية بالاعتراف، لا بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية فقط، بل بالحق في التمثيل الثقافي والمساهمة في صياغة صورة الذات الجماعية.

رحيل كافون ذكر التونسيين بثورتهم وما انتجته من نظم وتعبيرات جديدة يبدو انها أبقت على روح الثورة في تونس في عمقها الثقافي والاجتماعي، مما يدل على أن الثورة أحدثت كسرًا لا يمكن ترميمه بسهولة في طريقة تعامل التونسيين مع الرموز ومنهم «كافون» الذي أثبت أن تأثير هذا الجيل الجديد من الفناين على الرأي العام والوجدان الجماعي بما جعله رمزا من رموزه الذي عبر عنه وعن ثورته وطموحه وخيباته.

هذا التحوّل لم يكن محل ترحيب من قبل جزء من النخبة الثقافية التي حافظت على جزء من الخطاب النخبوي في التعامل مع فنانين مثل كافون بشيء من التحفّظ أو الاستعلاء، إما بسبب بساطة أدواتهم الفنية، أو بسبب انفلاتهم من معايير الذوقية الرسمية.

في حالة «كافون»، شأنه شأن العديد من الاسماء، لا يمكن فهم نجاحهم وتأثيرهم وارتباط هذا الجيل من الشباب بالثورة، دون ربطه بسياقه الاجتماعي. فهذا الجيل الجديد من المغنين او الفناين لم يطرحوا أنفسهم كـ«فنانين ملتزمين» وفق التصنيف القديم، بل قدّموا تجربة تعبّر عن التزامهم الواقعي والتصاقهم بالتجربة اليومية للتونسين والتونسيات، فقدموا اعمالا تمسّ قضايا ملموسة وتُقال بلغة قريبة، مباشرة، وغير مؤدلجة.

لقد نجحت الثورة، رغم تعثراتها وانتكاساتها في زعزعة مفاهيم قديمة عن السياسة وعن المشترك وعن الفن والثقافة والرمز. ولعل ما ظل ثابتا منها هو أنتاجها لنخب جديدة من خارج المؤسسة تكثف فيها المعنى الثقافي العميق للثورة: ثورة لم تعِد بتغيير النخبة، بل بتوسيع من يحق له أن يكون صوتًا وأن يكون رمزًا.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115