الذي خصص لمتابعة عودة التونسيين بالخارج يوم 6 ماي 2025 وتصريحات محافظ البنك المركزي حول حجم مساهمة الجالية في الاقتصاد الوطني، حقيقة أكثر عُمقًا من مضمون البلاغات نفسها: أنّ الدولة التونسية لم تُدرك بعد أهمية وجود جالية تُقدَّر بمليون ونصف مواطن موزّعة على عشرات الدول، حاملة لرأسمال رمزي واقتصادي ومعرفي من شأنه ـ لو أُحسن توظيفه ـ أن يعود بالنفع على البلاد.
هذا الإدراك الغائب ليس مجرّد نقص في المعلومة، بل يوحي بأننا إزاء خلل في الرؤية. إنّ ما صدر عن المجلس الوزاري، لا يوحي بأننا إزاء سياسة عمومية، بل يؤكد استمرار السلطات في مقاربتها القائمة على الاستجابة الظرفية للضغط الموسمي. إن القرارات المتّخذة، من قبيل تخفيض أسعار تذاكر السفر أو تبسيط بعض الإجراءات الديوانية، تندرج ضمن منطق مناسباتي بيروقراطي/إداري لا يبين أننا أمام تخطيط استراتيجي يربط بين الجالية والدولة برابطة تشاركية.
إنّ التعامل الموسمي مع أبناء الوطن في المهجر ليس وليد سياسة، بل يؤسس لسوء فهم طويل الأمد. فحين تختزل الدولة علاقتها بجاليتها في إجراءات ظرفية متكرّرة، تُفقد العلاقة معناها المؤسساتي، وتعيد إنتاج نموذج يرى في المواطن المقيم بالخارج مصدر تحويلات لا مصدر تفكير واقتراح وبناء.
إذا نظرنا إلى الأرقام، سنجد تصريح محافظ البنك المركزي يوم 6 ماي بأن تحويلات التونسيين بالخارج تغطّي 1.4 % من خدمة الدين الخارجي، وتُشكّل 30 % من احتياطي النقد الأجنبي، بينما يتجاوز امتلاكهم للعقارات نسبة 50 % من مجمل الملكيات المسجّلة. هذه المعطيات تُظهر أن الجالية تُنقذ الدولة من أزماتها المالية دون أن تُكافأ باعتراف مؤسساتي حقيقي من خلال سياسات عمومية. هنا تكمن المفارقة المؤلمة.
هذا الغياب يظهر في تفاصيل حياة يومية تبين هشاشة الرابط بين الدولة ومواطنيها في الخارج، سواء أتعلّق الأمر بالخدمات القنصلية، التي قد تتحوّل إلى عبء بيروقراطي، أو عند العودة إلى تونس ـ الظرفية أو الدائمة ـ ومواجهة نظام جمركي معقّد ومتشعّب وإجراءات متضاربة وخدمات رقمية محدودة وغيرها من التفاصيل التي لم تشملها الإجراءات الصادرة عن المجلس الوزاري الأخير.
نحن أمام مفارقة بين ما يقدّمه التونسيون بالخارج وبين ما تمنحه لهم الدولة وكيفية نظرتها إليهم. ذلك ما كشفته سياساتها الحالية ـ كما تجلت في قرارات المجلس الوزاري ـ والتي من الممكن أن تخلق انطباعًا بأننا أمام منطق «الدولة الوظيفية» لا «الدولة الحاضنة». إذ إنّ ترسيخ الدولة لانطباع لدى شرائح واسعة من مواطنيها بأنها تنظر إليهم على أنهم مصدر للعملة الصعبة لا كمواطنين فاعلين، ولا كمكوّن حيوي في معادلة التنمية، يُعمّق انعدام الثقة ويزيد من الشعور بالاغتراب.
إنّ الإجراءات الإدارية التي تتضمّن بعض الجوانب ذات البعد الاجتماعي أو بعض الامتيازات المصرفية، والتي وُضعت في ظل غياب آليات استشارة ديمقراطية دائمة للجالية، كذلك ضعف التمثيل السياسي لها في مؤسسات القرار وتشتّت النصوص القانونية بين وزارات وهيئات، يبدو أن التنسيق بينها ضعيف، قد يكون نتيجة لغياب سياسة إدماج المهاجرين ضمن تصوّر استراتيجي جامع.
ذلك ما يبرز أهمية أن توضع اليوم سياسات عمومية تنطلق من أنّ الجالية التونسية في الخارج لا يمكن اختزالها في كونها مصدر للعملة الصعبة، بل يجب النظر إلى كيفية توظيف إمكانيات الدولة وتسخيرها مع طاقات إنسانية وثقافية واقتصادية قادرة على مدّ البلاد بأفكار وتجارب وكفاءات متخصصة يمكنها أن تساهم في شتى المجالات، شريطة أن تضع الدولة سياسات إدماج لجاليتها في الخارج في نسيجها الاجتماعي والمؤسساتي.
لقد آن الأوان لاخراج للدولة لهذا الملف من دائرة الاستغلال المناسباتي إلى أفق السياسات العمومية المتكاملة القائمة على مبادئ الشراكة والمواطنة الكاملة ذلك أن الجالية ليست عنوان تحويلات مالية فقط.