بأن تونس تعيش منذ مطلع سنة 2025 على وقع تحولات دقيقة ومتشعبة تعكس عمق الأزمات الهيكلية التي طالت مختلف مجالات الحياة العامة: سياسيا، واقتصاديا واجتماعيا. فالمناخ العام مطبوع بالاحتقان، بات مشبعا بظلال الريبة والخوف، لا بشأن واقع البلاد الراهن فقط بل كذلك في علاقة بوجهتها المستقبلية.
في تفاصيل الحياة اليومية، يتسرب القلق إلى النفوس، وسط شعور عام بانعدام الأفق وغياب رؤية إصلاحية واضحة المعالم. مشهد تتغذى معالمه من انسداد سياسي بلغ ذروته برفض متواصل لكل الدعوات الى حوار وطني، بما فيها تلك التي صدرت من داخل البرلمان الحالي، في قطيعة تبين حجم الانغلاق، وفي ظل سياقات وطنية وإقليمية ودولية تتسم بتعقيد بالغ، تبدو البلاد مهددة بمزيد من العزلة والتقهقر إذا لم تخرج عاجلا من هذه الدائرة المغلقة.
هذه الدائرة تتمثل في جمود المشهد السياسي وهيمنة السلطة التنفيذية على زمام المبادرة واحتكارها للقرار في الفضاءات العامة، مع تصاعد خطاب رسمي يستند إلى ثنائية «نحن» و«هم» مما يعمق مناخ الشك ويكرس منطق التخوين، بدل إرساء ثقافة الحوار والتعدد والاختلاف. ومما يزيد من تعقيد المشهد، أن التطورات القضائية الأخيرة – التي شملت شخصيات من طيف سياسي واسع – لا تبدو منفصلة عن هذا المناخ، بل تقدم مؤشرا إضافيا على المسار السياسي الذي تنتهجه السلطة، مسار يغيب فيه كل استعداد حقيقي لفتح قنوات النقاش الجاد والمسؤول مع الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين.
في ظل هذا الواقع، ارتفعت وتيرة التوتر الاجتماعي مدفوعة بتضخم المطالب الاجتماعية في ظل اختلالات هيكلية مزمنة تعاني منها المالية العمومية. و تبدو الدولة اليوم غير قادرة على الاستجابة لتلك المطالب، أو على توفير خدمات عمومية ذات جودة في مجالات حيوية كالصحة والتعليم والنقل. وقد بات الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي مهددا، في ظل سياسة تقشف غير معلنة تضعف الثقة في مؤسسات الدولة وتغذي الاحتقان.
اقتصاديا، تلوح في الأفق مؤشرات دخول البلاد في نفق الركود، خاصة مع احتمالات تأثر قطاع السياحة الذي أصبح بمثابة رئة الاقتصاد الوطني جراء التداعيات السلبية المحتملة للحرب التجارية التي أطلقتها الولايات المتحدة مؤخرا والتي قد تضرب الأسواق الأوروبية، الشريك السياحي الأول لتونس. ورغم ما يعلن من مؤشرات إيجابية حول نسبة الحجوزات، الا ان هشاشة الاقتصاد التونسي تجعله سريع التأثر بأي اهتزاز خارجي.
بين انسداد سياسي وضبابية اقتصادية واحتقان اجتماعي متصاعد، تبدو البلاد أمام سيناريوهات متناقضة: استمرار التوتر السياسي والاجتماعي من جهة بما قد ينذر بموجات غضب جديدة، ومن جهة أخرى، سيناريو محتمل لديناميكية تقودها السلطة أو يفرزها المجتمع أو تبادر بها الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات بما يعيد خلق توازن يسمح بأن تتجه البلاد إلى التهدئة والانفراج.
في قلب هذه السيناريوهات، يظل الرهان الأساسي قائما على استعادة فضاءات النقاش العمومي، لا كمساحات صراع، بل كمجالات لإدارة الاختلاف والتفكير الجماعي في بدائل المرحلة. المأزق الذي تعيشه البلاد اليوم ليس نتاج اختيارات سياسية ظرفية فقط، بل هو مؤشر على أن نموذج الحكم لم يعد قادرا على الاستجابة الى متطلبات التحول الديمقراطي والتنمية الاجتماعية المتوازنة.
ولئن كانت الأزمة متعددة الأبعاد الا أن المدخل لمعالجتها سياسي بالأساس، عبر إرساء حوار وطني شامل يعيد الاعتبار للثقة، ويعيد صياغة التعاقد الاجتماعي على أسس جديدة أكثر عدلا ومشاركة وشفافية.