أزمة المالية العمومية: متى ندرك خطأ المقاربة؟

يتشارك جزء واسع من التونسيين في نظرتهم لفاجعة المزونة، المتمثلة في سقوط جدار المعهد ووفاة ثلاثة من تلاميذه،

واعتبار انها ليست حادثا عرضيا او قضاء وقدرا، بل هي نتيجة تراكم ازمة المالية العمومية وبلوغها مرحلة باتت فيها الدولة غير قادرة على صيانة البنية التحتية للمؤسسات التعليمية أو الانفاق على تحسين جودة الخدمات.

هذا الحادث المأساوي وما تلاه من تطورات كشفت عن حجم الاهتراء الذي طال البنية التحتية للمنشآت العمومية في قطاعي التعليم والصحة، اللذين كانا مرآة عاكسة لعقود من السياسات المالية التي أدت الى اختلال التوازنات وتغيير الاولويات، فكان ضمان سير مرافق الدولة يمر عبر توفير نفقات الاجور والتصرف على حساب الاستثمار والانفاق على البنية التحتية والخدمات.

تراكم عقودا من سوء التصرف في المالية العمومية أدى الى هذا الوضع الذي تعتبر السلطات، اليوم، انها ورثته عن سابقاتها ولا تتحمل مسؤوليته، وهنا قد لا يحصل طائل من البحث عن المتحمل للمسؤولية الاصلية. في نهاية المطاف امسكت السلطة الراهنة بمقاليد الحكم منذ 25 جويلية 2021 لكنها لم تقدم على تغيير اي شيء في المعادلة مما يحملها بدورها المسؤولية كسابقاتها.

نحن ازاء استمرار لذات النهج المحاسباتي في معالجة السياسات المالية للدولة وتوزيع نفقاتها، وهو نهج سلكته كل السلطات المتعاقبة على البلاد منذ 2016، حيث اعتمدت كل الحكومات على سياسة التقشف وخفض النفقات بهدف كبح العجز في ظل ضغط الدائنين الدوليين.

رؤية تشاركت فيها كل الحكومات وعبرت عنها في سياساتها المالية منذ 2016 الى حد اليوم سعيا منها الى تحقيق التوازنات المحاسباتية، والتي انتهت إلى تعميق الاختلالات الاجتماعية، خاصة في علاقة بالنفقات العمومية في القطاعات الحيوية التي تشكّل العمود الفقري للدور الاجتماعي للدولة: التعليم والصحة و البنية التحتية… لتشهد هذه القطاعات تدهوراً ملموساً في بنيتها التحتية وجودة الخدمات التي تقدمها.

هذا ما يتجلى في قطاع التعليم، (مثلا) حيث ادت سياسة التقشف في توزيع النفقات المخصصة للتعليم الى تقليص نفقات الاستثمار والصيانة الى 5 % فقط، في حين تستاثر نفقات الاجور على اكثر من 85 % من ميزانية وزارة التربية وذلك في الفترة التي جمدت فيها الانتدابات.

لمزيد فهم الصورة بلغت نفقات وزارة التعليم دون احتساب الاجور في 2023 بحوالي 487 مليون دينار خصصت للصيانة والاستثمار والتصرف، واذا قارنا هذا الرقم بما كان عليه في 2016 (572 مليون دينار) نلاحظ تراجع المخصصات باكثر من 15 % تقريبا.

اذا أردنا مزيد التدقيق، يمككنا النظر الى النسبة التي تمثلها ميزانية التعليم بمختلف اصنافه من الناتج الداخلي الخام والتي باتت أقل من 0.4 %، نسبة لا حاجة الى مقارنتها بما كانت الدولة تخصصه من انفاق على التعليم خلال العقود الماضية، مما يمكن من شرح الكثير خاصة اذا وضعنا الامر في سياقه الراهن وهو تزايد الحاجة إلى الصيانة والتوسعة وتحسين ظروف التعلم.

غير بعيد عن قطاع التعليم يشهد قطاع الصحة ذات الازمة وذات الهشاشة حيث تشكل نفقات القطاع 0.5 %، من النتاج الداخلي الخام، رغم تسجيل ارتفاع نسبي في الاعتمادات المخصصة لوزارة الصحة دون احتساب الأجور، لتنتقل من 625 مليون دينار سنة 2016 إلى 784 مليون دينار سنة 2023، لكن هذه الأرقام لم تواكب التغيرات الديمغرافية، ولا الارتفاع المهول في كلفة الأدوية والتجهيزات.

هذه المعطيات والارقام قادرة على ان تبين ان إن ما حدث في المزونة صرخة تحذير صريحة عما يقودنا اليه هذا النهج من الانفاق العمومي الذي بات غير قادر على ضمان الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية، وانه يجب تغيير هذه المقاربة التي تبين خللها خلال السنوات العشر الماضية.

الدرس الحقيقي من هذه المأساة يتمثل ببساطة في الاقرار الصريح بأن الدولة غير قادرة على توفير الخدمات و الحماية لأبنائها اذا استمرت في انتهاج هذه السياسات المالية التي تكرس «الازمة». لمغادرة هذا المربع على الدولة المراجعة الجذرية لسياساتنا المالية والاقتصادية لجعلها اكثر فعالية وإنصافًا.

لقد دقّت فاجعة المزونة جرس الخطر. وإذا لم تتحول هذه الصدمة إلى لحظة مراجعة حقيقية لسياستنا العمومية سنخاطر بمستقبل أجيال كاملة، اذ لا تنمية دون تعليم آمن، ولا كرامة دون صحة للجميع، ولا استقرار دون بنية تحتية تضمن المساواة والعدالة. والأهم: لا دولة قوية دون دور اجتماعي واضح ثابت وغير قابل للمساومة

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115