بوادر أزمة ثقة تتفاقم

تتواتر الأحداث القادمة من معتمدية المزونة بولاية سيدي بوزيد لتشكل صورة أولية

مفادها أننا لسنا إزاء حدث عابر أو فاجعة ستمر دون أن تترك انعكاساتها على المشهد العام الوطني. حادث انهيار جدار المعهد الثانوي بالمنطقة وتصاعد الاحتقان فيها، ليس مجرد طارئ عرضي سيمر كما مرت غيره من الأحداث التي شهدتها البلاد خلال الفترة الأخيرة بل هو جرس إنذار حقيقي يعلن الخطر ويعلن أن الرهان بات على منسوب ثقة الشارع التونسي في المنظومة السياسية القائمة. حين انهار جزء من سور المعهد الثانوي مودياً بحياة ثلاثة تلاميذ في عمر الزهور، لم تكن الكارثة نتيجة قوة قاهرة أو مفاجئة بل ثمرة مريرة لسنوات من الإهمال والتجاهل المزمن لتحذيرات الأهالي ونداءاتهم المتكررة.

إن ما حدث في المزونة وخيار السلطة في المعالجة الأمنية لاحتواء الاحتقان وما حملته تصريحات أبناء الجهة خاصة يوم أمس يعكس بجلاء أزمة الثقة التي باتت تطال السلطة ومؤسسات الدولة، إذ إن سرعة انتشار الاحتجاج بتعليق الدروس أو بالوقفات التضامنية والوقفات الاحتجاجية العفوية التي نظمها الشباب في العاصمة تشير إلى أننا إزاء تحول من مأساة محلية إلى قضية وطنية شاملة.

كما خرج المئات من سكان المزونة في احتجاجات صاخبة رافعين شعارات تعبّر عن الغضب والشعور بالخذلان، سار المئات من الشباب في مظاهرة انطلقت من أمام المسرح البلدي إلى مقر وزارة الداخلية. هذا الامتداد الجغرافي للاحتجاجات والشعارات السياسية التي رُفعت يكشف عن تطور نوعي في وعي المواطنين. وأضحت المطالب لا تقتصر على تحسين الخدمات أو محاسبة المسؤولين المباشرين، بل تحولت إلى ما يمكن اعتباره بداية تشكّل رأي عام رافض لمنظومة سياسية فقدت، من وجهة نظره ووفق شعاراته، شرعيتها ومصداقيتها.

نحن أمام مشهد ممتد جغرافياً يبين لنا أن جزءاً من الشارع التونسي اهترأت ثقته في النظام السياسي، وذلك لما يعتبره بعضهم تناقضاً فاضحاً بين الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن العدالة الاجتماعية، وبين واقع التهميش المستمر، إضافة إلى تكرر الحوادث دون استخلاص الدروس أو تغيير الممارسات. ثالثاً، غياب المساءلة الجدية، حيث تقتصر المحاسبة على المستويات الدنيا، بينما يظل صناع القرار بمنأى عن أي محاسبة. ورابعاً، تآكل شرعية المؤسسات، حيث لم يعد المواطن يرى فيها أداة لتحقيق العدالة أو تحسين ظروفه، بل يعتبرها جزءاً من المشكلة.

هذا لا يعني أننا إزاء انتفاضة شعبية أو ثورة كما قد يعتقد البعض، بل نحن أمام ارتفاع منسوب الاحتقان وبداية تشكّل رأي عام سياسي يحمل السلطة مسؤولية الفشل، وهو ما يجب أن ينتبه إليه الجميع إذا كنا نبحث عن الخلاص الجماعي من حالة انسداد الأفق السياسي وارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي الذي لا يمكن أن يُطوّق بالمعالجة الأمنية كما فعلت السلطة لاحتواء الاحتجاجات بمدينة المزونة التي عاشت على وقع انتشار أمني مكثف ومواجهات بين عناصر الأمن ومحتجين تضمنت استخداماً مكثفاً للغاز المسيل للدموع، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي في شوارع المدينة الرئيسية، وفق شهود عيان تم نقلها ونشرها.

هذه المقاربة الأمنية تغذي الانطباع الذي تشكل لدى جزء من التونسيين بأن السلطة القائمة عاجزة عن التجاوب مع المطالب الشعبية المتصاعدة، ويبدو أنها ستظل غير قادرة على الاستجابة لها في ظل أزمة اقتصادية خانقة وغياب آليات الحوار بين السلطة وبقية مكونات المجتمع التي من شأنها أن تُخفّض من حدّة الاحتقان والتوتر. رغم الدعوات المتكررة لاستئناف حوار جاد وشامل، لا تزال مؤشرات التصلب والتجاهل متصاعدة، ما يزيد من حدّة التوتر ويعمّق فجوة الثقة.

ما يزيد من تعقيد المشهد، كيفية تعامل السلطة مع هذه الحادثة والاحتجاجات بفتور أقرب للتجاهل، بيّن أنها ليست على استعداد للإصغاء إلى المطالب الشعبية أو فتح قنوات حوار جدية. تطمئن الشارع بأنها ستشرع في معالجة الأسباب الحقيقية للأزمة، بدل الإجراءات الترقيعية، أو البحث عن كبش فداء، خطوات عمّقت الفجوة بين السلطة اليوم والشارع.

فجوة تبرزها أيضاً المعطيات الصادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في تقريره الأخير حول التحركات الاجتماعية خلال الثلاثي الأول من سنة 2025، أكثر من 3560 تحركاً احتجاجياً، جلها عفوية وغير مؤطرة، وشملت مختلف جهات البلاد، خاصة في المناطق الداخلية. كما أشار التقرير إلى ارتفاع نسق التحركات بنسبة 12 % مقارنة بنفس الفترة من سنة 2024، مع بروز لافت للاحتجاجات المرتبطة بقطاع التعليم والبنية التحتية والصحة. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل مؤشرات حقيقية على تصاعد حالة الاحتقان، وفقدان المواطنين لأي أمل في حلول مؤسسية.

وتكمن أهمية هذه الأرقام في ربطها بما وقع في المزونة. فالفاجعة ليست حدثاً معزولاً، بل حلقة جديدة في سياق عام من الغضب والخذلان، تعكسه هذه التحركات التي باتت تعبّر عن عمق الشرخ بين المواطنين والسلطة. عندما تخرج احتجاجات من المزونة، ثم تلتحق بها العاصمة، وتتماهى مع موجة وطنية متصاعدة من التحركات، فهذا دليل واضح على أن منسوب الاحتقان مرتفع.

احتجاجات المزونة، في جوهرها، ليست مجرد ردة فعل على حادث منعزل، بل صرخة مجتمعية مدوية ضد منظومة سياسية تخلت عن مسؤولياتها. هي تعبير عن وعي جديد يتشكل في الشارع التونسي، مدعوم بإحصائيات مقلقة تؤكد أن حالة الغليان لم تعد قابلة للتجاهل. فهل من مصغٍ قبل فوات الأوان؟

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115