عيد الشهداء وعيد الاستقلال ... : تتنازعنا السرديات ... في الحاجة إلى ذاكرة جامعة

كل سنة يُحيي التونسيون ذكرى أحداث 9 أفريل 1938، التي خفت بريقها سنة بعد اخرى بعد أن أُفرغت من رمزياتها ودلالاتها،

في ظل ما أصابها كغيرها من المناسبات الوطنية المتعلّقة بمسار الاستقلال وحرب التحرير من صراع سرديات، بعضها يشكك في الاخر، فكانت البلاد أمام إشكالية عدم تمكنها، بعد عقود، من بلورة ذاكرة جماعية جامعة تكون بمثابة مرآة لتاريخها السياسي والاجتماعي، تسمح لها بأن تؤسس لمستقبلها.

هنا وجب الانتباه إلى أن الذاكرة الجماعية لا تتشكل تلقائيًا ولا تنمو بشكل عفوي، بل هي ثمرة جهد ثقافي وسياسي وتربوي طويل، تتداخل فيه سرديات المؤسسات الرسمية والنخب والمجتمع، لتكون كما وصفها الباحث في علم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي «موريس هالبڤاكس» بـ «إعادة بناء للماضي من وجهة نظر الحاضر» بما يعنى أن الذاكرة الجماعية ليست مجرد تجميع آلي للأحداث، بل هي تأويل جماعي للزمن، تُمنح فيه بعض اللحظات طابعًا رمزيًا وتُقصى أخرى، يُعاد ترتيب الأحداث وتوزيع الأدوار فيها بما يخدم هوية جماعية يُراد لها أن تكون موحّدة.

المجتمع، وفق ما يقدّمه «هالبڤاكس» في مؤلفه، يمكنه أن يمتلك ذاكرة جمعية تتجاوز ذاكرة الفرد وتعيش أكثر منه. وبالتالي، يرتبط فهم الفرد للماضي بشكل قوي بهذا الوعي الخاص بالمجموعة.

في تونس، ظلّت هذه الذاكرة الجمعية رهينة تنازع السرديات. فتاريخ تونس المعاصر كُتب في جل فتراته انطلاقًا من ترسيخ الثنائيات: الوطني/الخائن، أو الثوري/الرجعي… إلخ، مما أنتج سردًا إقصائيًا استبعاديًا، لا يعكس تعددية المجتمع ولا يعترف بتنوع أدواره في صناعة الحاضر. ذلك ما وقعت فيه البلاد ونخبها وسلطتها، منذ الاستقلال إلى حد اليوم، للأسف، لننزلق لغايات سياسية في ممارسة الانتقائية في التعاطي مع الرمزيات ومع الرموز، بهدف تحقيق مصالح سياسية وإضفاء شرعية على هذا النظام أو ذاك، أكثر من سعيها لتشكيل ذاكرة جماعية.

نحن اليوم إزاء هذا الانحراف الذي يحول دون أن تكون مناسباتنا الوطنية والتاريخية حدثًا يعزز سردية وطنية جامعة، تتقاطع فيها الروايات وتُبنى فيها الجسور بين الأجيال. وما يحصل هو العكس. فقد ظلّت هذه المحطات موضوعًا للتذكير الموسمي، لا مادة حية تُفعّل في الوعي الجماعي وتُوظف تربويًا وثقافيًا. فبقيت الرموز حبيسة الخطابات الرسمية، والمناسبات حبيسة الشعائر البروتوكولية، فيما غابت الرواية الوطنية الجامعة التي تمنح الشعب التونسي وعيًا مشتركًا بتاريخه، وبمآلاته، وبما يوحّده أكثر مما يُفرّقه.

في ظل الأزمات المتراكمة التي تعيشها تونس اليوم، يبدو الرهان على بلورة ذاكرة جماعية ضرورة سياسية واجتماعية لا تقل أهمية عن الرهانات الاقتصادية. فالشعوب لا تبني مستقبلها من فراغ، بل من خلال إعادة قراءة ماضيها والتصالح معه. بدون الذاكرة الجماعية، تُصبح المجتمعات أكثر هشاشة، وأكثر استعدادًا للانقسام. أما حين تمتلك سردية تاريخية منصفة ومتوازنة، تتحول إلى جماعة متخيّلة، متماسكة، ومصمّمة على تجاوز خلافاتها.

ولا ينشأ الشعور بالمصير المشترك من خلال التحديات الراهنة فقط، بل من رواية تتقاسم ما مررنا به، وما خسرناه، وما أنجزناه.

التاريخ حين يُعاد تأويله بروح منفتحة، يصبح مصدر إلهام لا مصدر تقييد، كما يكون دعامة لوحدة مجتمعية لا مجالاً للصراع.

لقد آن الأوان لاعادة النظر في علاقتنا بتاريخنا، لا من باب جلد الذات أو اجترار الأحقاد، بل من باب الانفتاح على الذاكرة كمساحة للحوار والاعتراف والتنوع. كما آن الأوان لتحوّل عيد الشهداء وعيد الاستقلال وعيد الجمهورية وغيرها من الأحداث المفصلية في تاريخنا، من مجرد ذكرى نُحييها إلى مناسبة نُفعّل فيها ذاكرتنا الجماعية ونُعيد من خلالها تشكيل وعينا بتاريخنا، بعيدًا عن الروايات المنمّطة أو المُوجّهة. فالذاكرة الجماعية لا تُبنى بقرارات فوقية، بل تُصاغ جماعيًا، عبر المدارس والإعلام والفن والمنتديات الفكرية، وكافة المساحات التي يُعاد فيها طرح الأسئلة الكبرى حول الهوية والانتماء والمستقبل هذا دون أن نغفل عن أن امتلاكنا لسردية جامعة لا يعني أن ننفي اختلافاتنا، بل أن نحولها إلى مصادر ثراء لخطاب مشترك، يتسع للجميع، ويضع الجميع على أرضية واحدة.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115