عودة التحركات المطالبة بالشغل: العمل ملف اجتماعي أو اقتصادي؟

يبدو ان معضلة النظر الى الشغل كملف اجتماعي لا كعامل ومؤشر اقتصادي اوقع راسمي السياسات العمومية

خلال السنوات الاخيرة في فخ تعميق ازمة الشغل في البلاد بدل حلها وتجاوز ازمته الهيكلية المزمنة التي لا يقتصر تاثيرها على الحانب الاجتماعي بل يطال الاقتصاد ويفاقم من اختلاله.

سوق الشغل التونسية تحد اقتصادي لما تعانيه من مشكلات هيكلية ابرز مظاهرها ارتفاع بطالة اصحاب الشهادات العليا بين 20 و23 ٪ وفق النوع الجندري والانتشار الجغرافي، وهو ما يعكس هشاشة المنوال الاقتصادي التونسي واستمرار عجزه عن خلق فرص عمل تتماشى مع مهارات طالبي الشغل.

أزمة اقتصادية تعالجها الدولة منذ سنوات على انها ملف اجتماعي وهو ما يقود سياساتها العمومية الى تعميق الازمة بمعالجات ظرفية ووظائف غير منتجة، سواء عبر الانتداب في الوظيفية العمومية او عبر آليات التشغيل الظرفية.

هذا النهج في التعامل مع ملف الشغل على انه ملف اجتماعي يستوجب تدخل الدولة في السوق وتوظيف طالبي الشغل حتى يكشف عن اننا انحرفنا بهذا الملف من الاقتصادي الى الاجتماعي السياسوي الذي يحول بيننا وبين اصلاحات اقتصادية شجاعة تعيد هيكلة سوق الشغل التونسي. إصلاحات هيكلية جذرية تركز على خلق الثروة بدل توزيعها في شكل وظائف غير منتجة باتت تغرق الوظيفية العمومية او القطاع العام.

تتجلى أزمة سوق الشغل في تونس في سياسات الدولة التونسية منذ الاستقلال بالاعتماد المفرط على على التوظيف في المؤسسات العمومية لا كحل لامتصاص البطالة فقط بل لبناء مؤسسات الدولة الوليدة التي غادرت حقبة الاستعمار التي كان سوق الشغل فيها مهيكلا بما يخدم مصالحه وهو ما يتجلي في كثافة اليد العاملة في قطاع الفلاحة التصديرية وفي المواد الاستخراجية حينها.

محاولة تجاوز هذا الاختلال بالتوظيف المباشر في مؤسسات الدولة وادارتها لم يكن الخيار الاسلم ولا المناسب، لكن قادة الاستقلال يومها اعتبروا ان الاهم توفير اطارات للدولة لا تركيز سوق شغل وهيكلة بطريقة متوازنة تحول دون انفجاره بعد سنوات.

الانفجار حصل اذ أن نتاج هذه السياسات كان عدد الموظفين العموميين يفوق 656 ألفًا وفق بيانات صدرت سنة 2024، بلغت كتلة الأجور في تونس حوالي 23.7 مليار دينار تونسي، ما يمثل 13.5 % من الناتج المحلي الإجمالي، دون أن يساهم ذلك في تحسين الخدمات العامة أو تحقيق التنمية. بل تحول الى ضغط متصاعد على الميزانية وبات يفرض إيجاد حلول مستدامة لسوق الشغل.

هذا السوق الذي يعاني من ازمة هيكلية تتجسد في عدم تلاؤم مهارات ومكتسبات الباحثين عن عمل مع متطلبات السوق وعدم التلاؤم بين النظام التعليمي والحاجيات الاقتصادية ومتطلبات السوق، وقد تفاقمت هذه الأزمة بسبب التفاوت الجهوي العميق، حيث تتركز أغلب فرص العمل في المدن الساحلية، في حين تعاني الجهات الداخلية من تهميش اقتصادي يرفع من نسبة البطالة.

فقد ظلت الاستثمارات الفعلية في المناطق الداخلية ضعيفة، إما بسبب غياب بنية تحتية قادرة على استقطاب المشاريع، أو نتيجة سياسات اقتصادية غير واضحة المعالم لا توفر حوافز كافية للمستثمرين. في المقابل، أصبح القطاع غير المنظم ملاذًا لجزء كبير من اليد العاملة، حيث يعمل حوالي 44 % من العمال في ظروف هشة دون تغطية اجتماعية ودون ضمانات قانونية، مما يعكس تواصل عجز الدولة عن تنظيم سوق الشغل وإيجاد بدائل حقيقية.

بالتالي السياسات العمومية التي انتهجت في البلاد منذ استقلالها الى حد اليوم سياسات تشغيلية قصيرة النظر لم تولِ اهتمامًا للكفاءات ولم توفر لها مناخًا مناسبًا للبقاء والمساهمة في تنمية الاقتصاد الوطني، بعدم احداث قطاعات ذات قدرة تشغيلية عالية وذات قيمة مضافة.

في ظل هذه التحديات، تبدو الإصلاحات ضرورة حتمية لا مناص منها، وحتى تكون فعالة يجب ان نقطع مع مقاربة ملف التشغيل كملف اجتماعي بل ان ننظر اليه كملف اقتصادي يستوجب ان نعيد نطرح منذ الان نقاشا حول هيكلة سوق الشغل التي تتطلب تغييرًا جذريًا في المنوال التنموي وإصلاح التعليم والتكوين المهني حتى يكونا أكثر ارتباطًا بحاجيات السوق.

على الدولة هنا ان تراجع دورها وان تعيد تعريف نفسها لا كفاعل اقتصادي بل كمخطط استراتيجي يضع سياسات عمومية تؤدي الى رؤية شاملة تتجاوز الحلول الظرفية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115