قطاع الاسكان في تونس : الخيارات الممكنة و المسار الأنسب

يقترن طرح ملف السكن للنقاش العام في تونس من زاوية «السكن الاجتماعي»

ويتفرع الى نقاط ومحاور ونقاش عن حق السكن و السياسات العمومية التي تنتجها الدولة وتفاصيل سقط منها ان ملف السكن اكثر تعقيدا وتشابكا من ان يختزل في خيار او حل دون غيره، اذ نحن ازاء قطاع يمتزج فيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليفرز مشهدا معقدا لا مكان فيه لحل سحري.

يمتاز قطاع الاسكان في تونس بفرضه على الدولة ومؤسساتها وافرداها ومجموعاتها تحدي تنزيل الحق الدستوري في السكن على ارض الواقع اي ضبط سوق الاسكان الذي يسجل وفق معطيات المعهد الوطني للاحصاء متوسط نمو بثلاث نقاط خلال الثلاثي الاول من 2024 مقارنة بالاشهر الثلاثة الاخيرة من سنة 2023، بزيادة بـ3 % في أسعار الشقق و4.8 % في أسعار المنازل.

هذه النسبة في زيادة الاسعار على اساس ربحيا يرافقها تراجع في حجم الطلب في سوق العقارات في تونس، وذلك لارتفاع الاسعار التي تستقر عند متوسط ثلاثة الاف دينار للمتر المربع لدى القطاع الخاص وبين 1500 و2200دينار للمتر المربع للمؤسسات العقارية العمومية. وهو ما يعكس حجم ازمة الاسكان في البلاد التي تفيد الارقام الرسمية ان 2,2 مليون اسرة من اصل 3,2 مليون اسرة تمتلك مسكنها الخاص، اي اننا امام مليون اسرة لا تمتلك مسكنها الخاص.

هذا الحجم يكشف عن عمق الازمة والتحديات المفروضة على الدولة لضمان حق المواطنين في المسكن اللائق وسط ارتفاع التكاليف ومحدودية الموارد مما يجعل من امتلاك مسكن امرا شاقا صعب المنال على كل شرائح التونسيين لا فقط في علاقة بملف السكن الاجتماعي المهيمن اليوم على النقاشات وعلى عقل الدولة.

هذه احدى الاشكاليات في ملف السكن الاجتماعي وهي الفارق بين الطلب في السوق على هذه المساكن التي تقدمها الدولة باسعار تنافسية مقارنة بالقطاع الخاص او باسعار رمزية للاسر محدودة الدخل، ترفع من حجم الضغط على السوق المحلية للعقارات والمساكن التي تخضع كليا لمنطق السوق والتنافس الذي ادى الى ارتفاع الاسعار. اليوم يشهد القطاع العقاري ارتفاعًا متواصلًا في الأسعار الذي يرجع الى ارتفاع اسعار المواد الأولية التي تؤثر على كلفة البناء وتجعل من امتلاك الاسر التونسيية لمسكن خاص امرا شبه مستحيل اليوم لعدم وجود سياسات عمومية تشجع على ان يمتلك التونسيون مساكنهم.

هنا يبرز العنصر الغائب عن النقاش العام وهو السياسات العمومية ولا اذرع الدولة العقارية التي يطلب منها تكون مؤثرة في سوق العقارات بحجم مساهمة محدود، اذ تكشف البيانات الرسمية عن نقص في حجم المساكن المعروضة من فئة السكن الاجتماعي، والتي لا تمثل الا 1,6 ٪ من حجم الشقق والمساكن التي يقع انشاؤها سنويا، اي انه حجم تاثيره ومساهمة شبه منعدمين.

هذا ما يجعل الخيار الانسب اليوم، وضع سياسات عمومية أكثر تكاملًا تقودنا الى تحقق نتائج إيجابية في علاقة بملف السكن ، سواء عبر تحفيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص بهدف الضغط على التكلفة وتقديم مساكن بأسعار معقولة، او من خلال حوافز جبائية للباعثين العقاريين أو تخصيص أراضٍ بأسعار رمزية لإنجاز مشاريع اسكان دامجة ومندمجة، او دعم الاستثمار في تقنيات البناء الحديثة التي يمكن ان تضغط على التكاليف، وان تجعل المشاريع أكثر سرعة واستدامة.

الافكار عديدة ولا تقتصر على توفير تمويلات للسكن الاجتماعي، على اهمية المسألة، بل في احداث خطوط تمويل للباعثنين العقاريين بهدف الضغط على تكلفة الخدمات المالية التي تنعكس على الاسعار في نهاية السلسلة، فالاقتصار على خطوط تمويل للتمويل الذاتي او الولوج الى خدمات الاقتراض في ظل ارتفاع مشط للتكلفة لاحظناه وكانت نتائجة غير مشجعة، قد يكون الانسب اليوم ان نفكر في انشاء صندوق او صناديق تمويل مشاريع الاسكان للباعثين العقاريين مع الضغط على تكلفة خدمات الدين والتمويل للضغط على التكلفة النهائية ومن شأن هذا ان يحفز التونسيين على الاستفادة من برامج التمويل التي تقدمها الدولة لتشجيع مواطنيها على تملك مسكن هذا دون ان تسقط الدولة سياساتها الخاصة بتوزيع الاراضي باسعار تفاضلية، فقد نجحت خطط المقاسم في تمكين التونسيين من تملك اراض صالحة للبناء باسعار مقعولة يمكنها ان تقلص من ثقل تكلفة البناء هذا بالاضافة الى اثرها الايجابي على التخطيط العمراني.

الخيارات عديدة وكثيرة امام واضعي السياسات العمومية، ولا يجب عليهم ان يكونوا مرتهنين لخيار وحيد دون سواه، فهذا يفقذهم هوامش حركة وديناميكية تتجاوز قطاع الاسكان لتعم بقية القطاات الاقتصادية التونسية، فالاستثمار في قطاع الاسكان لا يحل أزمة الإسكان فقط، بل يخلق ديناميكية اقتصادية جديدة.

ان تحفيز النشاط العقاري يؤدي إلى تشغيل اليد العاملة ودعم الصناعات المرتبطة بالبناء، مثل الإسمنت والحديد والخشب.

تقول إحدى الدراسات ان «كل استثمار في السكن يولد سلسلة من الفرص الاقتصادية»، وهو ما يبرز دور القطاع في تحريك عجلة الاقتصاد، كما ان البعد الاجتماعي للأزمة لا يقل أهمية ذلك ان تقليص الفجوة السكنية يعزز الاستقرار الاجتماعي، ويقلل من التفاوت بين الطبقات كما ان توفير مساكن لائقة يحسن جودة الحياة، خاصة عندما يكون مقر السكن مرتبطًا بخدمات جيدة في الصحة والتعليم والنقل، فالمسكن ليس مجرد سقف يؤوي العائلة، بل هو فضاء يحدد جودة العيش ويؤثر على الاستقرار الأسري.

ان أزمة السكن الاجتماعي في تونس تتطلب حلولًا جذرية لا تقتصر على توفير مساكن إضافية فقط، بل تشمل إصلاح المنظومة العقارية برمتها، ان وضع سياسات متكاملة في هذا القطاع تؤدي الى تجاوز الحلول الظرفية نحو رؤية طويلة المدى تأخذ بعين الاعتبار مختلف الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية. الحق في السكن ليس مجرد التزام قانوني، بل رافعة للتنمية العادلة والاستقرار المستدام

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115