جعل الجميع يصابون بالذهول والحيرة التي لم تكن جراء انهيار النظام، فقد اتفق جل الفاعلين في المنطقة على أن نهايته من تحصيل الحاصل، وقد انطلقت مفاوضات لتحديد خطط اليوم الموالي لكن سرعة الانهيار ودراميته من فاجأتا الجميع.
منذ عودة الصراع المسلح بين القوات النظامية السورية والجماعات المسلحة، وعلى رأسها جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) وقوات سوريا الديمقراطية، تجلى عجز القوات النظامية السورية عن منع التقدم العسكري للجماعات المسلحة التي نسقت فيما بينها لإطلاق عملية «ردع العدوان» والتي انطلقت في الـ 27 من نوفمبر الفارط.
11 يومًا من المعارك انتصرت فيها الجماعات المسلحة وتقدمت تدريجيًا لتطويق العاصمة السورية دمشق ليلة السبت الفارط مما كشفت عن هشاشة المؤسسات السورية الرسمية وتآكلها الداخلي الذي كانت نتائجه تكرر عمليات الانسحاب للقوات النظامية من مواقعها في حماة أو في إدلب وغيرها من المدن السورية الكبرى.
تفكك القوات النظامية وسرعة انسحابها وتركها لمواقعها وقواعدها العسكرية وعتادها وسلاحها، كشف أيضًا عن أن النظام لم يقدر على الصمود خلال السنوات الفارطة الا بالغطاء الإيراني الروسي، الذي أدى سحبه عنه إلى انهياره السريع نظرًا لعدم مشاركة الطيران الروسي في عملية صد الجماعات المسلحة وعدم مشاركة الميليشيات الإيرانية أو الموالية لها في المعارك، ومن بينها قوات حزب الله اللبناني، مما سرع الانهيار ليتشكل واقع سياسي وميداني عسكري وجيوسياسي عجل بنهاية الأسد ونظامه ودخول سوريا في مرحلة جديدة لا يمكن لأحد اليوم الجزم أو التنبؤ بما ستحمله من تطورات بشكل دقيق، فالصورة ضبابية ورهينة للقوى الدولية وكيفية تحرك الجماعات المسلحة السورية واداراتها للمرحلة القادمة.
المشهد مركب ومعقد ومحكوم بجملة من العناصر والمصالح التي سعى الفاعلون الإقليميون والدوليون إلى التوافق بشأنها قبل انهيار النظام، نظرًا للأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية لسوريا التي تعتبر نقطة ارتكاز في الصراعات الإقليمية والدولية، والمحدد اليوم في مصير سوريا القوى الإقليمية، للأسف، لا السوريون، وعلى رأسها تركيا وإيران والكيان الصهيوني، والقوى الدولية وأساسًا الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
اليوم، بسقوط النظام السوري، تفتح أبواب التحول الجذري في المشهد الإقليمي بما له من تداعيات كبرى ستحدد، ما ستؤول إليه الأوضاع خلال الساعات القادمة، سقوط النظام وما يرافقه من فقدان السيطرة على المناطق الحيوية في البلاد، ومن تهديدات جدية لاستقرار سوريا، يجعل المنطقة تترقب تحركات ثلاث قوى رئيسية في سوريا: وهي الجماعات الإرهابية المنسوبة إلى السلفية الجهادية والقوات الكردية والحكومة بما لديها من مؤسسات وقوات نظامية. فالصراعات البينية بين هذه القوى الثلاث قد تلقي بسوريا في موجة جديدة من العنف واللاستقرار والتي لا يمكن الجزم بما ستحمله من تداعيات مما يجعل الأنظار تتجه اليوم إلى تحركات القوى الإقليمية، خاصة تركيا وإيران، اللتين تسعيان الى تعزيز نفوذهما أو استعادته بعد سقوط النظام. هنا قد تتجه تركيا إلى استغلال الفرصة لتعزيز وجودها العسكري في الشمال السوري فيما ستتجه إيران إلى انشاء فصائل تدعمها في سوريا، تجعلها لا تفقد أهم حليف لها في المنطقة وتكون حجر الأساس في سياساتها الإقليمية.
هذا التنافس الإقليمي على بسط النفوذ على سوريا والاستفادة من سقوط النظام، لا تخلو من مراهنات دولية في ظل توازنات تسعى روسيا إلى التوافق بشأنها مع الإدارة الأمريكية والاستفادة من علاقتها الإيجابية مع تركيا لضمان مصالحها في سوريا وجعلها ورقة تدعم المفاوضات القادمة بشأن أوكرانيا، خاصة في ظل موقف الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب القائل بأن الملف السوري ليس «معركتنا»، في إشاره إلى أن إدارته لا ترغب في أالتورط في الملف السوري وأنها ستكتفي بالمراقبة لتجنب هيمنة التنظيمات المتطرفة على البلاد.
هذه الرهانات التي تحرك القوى الإقليمية والدولية، ستتحكم بشكل صريح في المسار الذي ستنتهجه سوريا وتحدد مستقبلها عبر حلفائها من مجموعات مسلحة يبدو أنها أقرب اليوم إلى خوض صراعات داخلية جديدة بين الفصائل المختلفة، مما قد يؤدي إلى مزيد من الفوضى.