في بلادنا نلاحظ انحسارا مستمرا لما سمي بالفضاء العمومي (l’espace public) اي ذلك الفضاء الذي يحصل فيه التداول (la délibération) بين مختلف المكونات الفكرية والسياسية والاجتماعية للمجتمع والذي يصبح ممكنا بفضل الحياة الديمقراطية حتى لو كانت منقوصة ومخترقة بسلبيات عدّة .
الفضاء العمومي التداولي بمثابة مخبر كبير ومفتوح لبناء الافكار وتطويرها والتفكير الجماعي (المتفق أحيانا والمتناقض في جلّ الحالات) في واقع البلاد ومشاكلها والحلول الممكنة سواء أتعلق الامر بالقيم او بالأفكار او بالسياسات العمومية في كل مجالات الحياة.
لقد شهدت عشرية الانتقال الديمقراطي – رغم علاتها وأخطائها – لأول مرة في تاريخ تونس المعاصر فضاء عموميا ثريا ومتنوعا.
لم تكن التجربة مثالية و لم يكن بعض الفاعلين في الفضاء العمومي نزهاء، لكن بداية لا وجود لأية تجربة مثالية في العالم ونهاية كانت تجربة مهمة عبرت عن حقيقة القوى المتصارعة في البلاد كما سمحت بإيجاد فضاءات جديدة للحوار الفكري والسياسي رغم التحديات الخطيرة التي كادت تعصف بالبلاد ونقصد هنا خاصة الإرهاب السلفي الجهادي المعلوم الذي أثخن في البلاد.
ما الذي حصل لهذا الفضاء العمومي التداولي؟ لا وجود لأي قرار واضح ومباشر يقضي بإلغاء هذا الفضاء العمومي، وما كان بالإمكان ان يكون ذلك ولكن تظافرت عناصر عدة للتقليص المستمر من هذا الفضاء الى أن تم حصره عمليا في مربع صغير تضاءل بدوره من يوم الى آخر.
عنصران أساسيان يفسران وضعنا الراهن:
أولا عدم ايمان السلطة في بلادنا بالأجسام الوسيطة .. والفضاء العمومي التداولي هو الوعاء الكبير لكل هذه الاجسام الوسيطة وهي التي تعطيه وجوده وتغذي حياته.
صحيح أنه لم يتم منع الأجسام الوسيطة الا أنه تم تهميشها بصفة منهجية هذا علاوة على الملاحقات التي طالت بعض رموزها واستبعاد كل هذه الأجسام من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل اعلام من المشاركة الفعلية في الحياة العامة .
ثانيا لقد خلّفت عشرية الانتقال الديمقراطي مذاقا مرّا عند جزء من المواطنات والمواطنين فتطور عندهم عداء محموم لكل هذه الاجسام لاسيما الأحزاب والحركة النقابية ووسائل الاعلام وما يسميه بعضهم تهكما بـ«الحكوكيين» أي الى المكونات الاساسية لهذا الفضاء العمومي التداولي.
لاشك أن جزءا هاما من الأجسام الوسيطة بقي محافظا على حد أدنى من النشاط ومن الحركية ولكن دون تحقيق الصدى المطلوب ودون التأثير، ولو نسبيا، على السياسات العمومية ودون الحضور الكافي في مختلف وسائل الاعلام خاصة العمومية منها والتي أضحت في جلّها وعاء للصوت الرسمي فقط لا غير.
كل هذه العوامل مشتركة ومتضافرة أدت الى تقلص كبير لهذا الفضاء العمومي اضافة الى المرسوم 54 المسلط على رقاب الاصوات الحرة .. تقلص يشارف على الاندثار اليوم.
لكن التاريخ لم يكتب بعد، والمجتمعات المركبة والمعقدة كمجتمعنا لا يمكن لها أن تعيش وأن تزدهر دون فضاء عمومي تداولي مفتوح وديمقراطي.
يبقى السؤال كيف؟ وبأي ثمن؟