من معطيات وتفاصيل تتعلق بعمل قلم التحقيق والنيابة العمومية خلال الاربعة عشر شهرا الماضية وما وقع جمعه من ادلة واثباتات اشارت اليها الناطقة باسم النيابة العمومية وتعهدت في احدث تصريح اعلامي لها بكشف لدحض ما تقدمه هيئة الدفاع عن المشتبه فيهم من اتهامات باختراق القانون والاجراءات وما تعلنه عن عدم تضمن الملف لأية ادلة مادية يمكن ان تدعم رواية جهة الاتهام.
انتظار قسّم الشارع السياسي التونسي مرة اخرى الى فريقين، كل منهما يتبنى رواية ويشكك في الرواية الاخرى ويعمل على إسقاطها وعلى تقديم مؤيداتة وتأويله للنص القانوني، وذلك ما قد يكون مؤشرا على اهمية القضية، لا من حيث الطابع السياسي الذي تكتسبه، نظرا لطبيعة التهم التي وردت في قرار ختم البحث او لهوية المتهمين اليوم بل لما تمثله اليوم هذه القضية من تحد فعلي للدولة التونسية والقضاء.
هذه القضية وما رافقها من تطورات وتفاعلات من هذا الطرف او ذلك باتت اليوم بعد 14 شهرا من الايقاف التحفظي للمتهمين محطة مفصلية في تاريخ المنظومة القضائية التونسية ورهانا صعبا امام القضاة التونسيين الذين قد يقول البعض انه لم يسبق لهم أن واجهوا قضية جدالية بهذا الحجم مع التعقيدات القانونية والاجرائية والمتابعة الإعلامية داخليا وخارجيا.
لا تنبع أهمية القضية من طبيعة المتهمين فيها ولا من التكييف القانوني للتهم الموجهة اليهم ولا من قرار منع التداول الاعلامي او من طبيعة ما سرب خلال الاسابيع الاولى للقضية من معطيات عن الملف بل تكمن اهمية القضية اليوم في ما تعكسه من صراع قانوني يتعلق بأهمية الاجراءات في المنظومة القضائية والاهم من ذلك مدى انعكاسها السياسي والقانوني على الفضاءات العامة في البلاد.
اذا وقع النظر الى الملف بعيدا عن الفصول القانونية المتعلقة بآجال الايقاف التحفظي او آجال الاستئناف والطعن القانونية أي من خارج فصول مجلة الاجراءات الجزائية رغم اهمية ما تقدمه من ضمانات للمحاكمة العادلة وضمان لحقوق المتقاضين والتي اولها قرينة البراءة، وسيكون نظرنا الي القضية وفق انعكاساتها المستقبلية الممكنة على الحياة في البلاد بشكل عام.
نحن أمام وضعية غير مسبوقة في تاريخ تونس الحديث، ستفرض وفق ما ستحمله الساعات القادمة من تطورات تتعلق اما بالإفراج عن الموقوفين الـ 52 على ذمة القضية، او بالابقاء عليهم في حالة ايقاف رغم انقضاء الآجال القانونية المنصوص عليها في الفصل 84 من الاجراءات الجزائية.
ومهما كان التأويل القانوني الممكن تقديمه من هذا الطرف او من ذلك سيتجاوز ذلك التداعيات والإشكاليات التي يفرضها المجال القانوني والاجرائي، ذلك ان الانعكاس لن يقتصر على ترسيخ سابقة قضائية سلبية او ايجابية، بل في ما سيقدم من رسائل سياسية بالاساس لا تتعلق فقط بالفعل السياسي وحدوده في تونس بل في الشعار المركزي الذي رفعته الدولة التونسية منذ عقود وهو «دولة القانون».
هنا لا يقتصر تعريف دولة القانون على ماهو جلي وواضح بل على ما تقدمه من ضمانات لكل مواطنيها بأن قواعد العيش المشترك ستظل محمية بالنص القانوني كذلك بالسلوك الذي ستنتهجه منظومتهم القضائية التي يمكن الجزم بأنها باتت اليوم امام اختبار مصيري يتعلق بمدى مصداقيتها لدى الرأي العام الداخلي والخارجي.
ولا يتعلق الامر بالنص القانوني ولا بفقه القضاء اللذين قد يقع الاستنجاد بهما اما لتعليل قرار الإفراج الوجوبي لانقضاء مدة الايقاف التحفظي او لتمديد هذا الإيقاف رغم انتهاء الآجال القانونية الصريحة، بل يتعلق بالرسالة الصريحة والمباشرة التي ستوجه الى كل التونسين ايا كان موقعهم وايا كان مزاجهم وهواهم مع هذا الطرف او ذلك الطرف.
وليس من المبالغة القول بأن ما ستحمله الساعات الـ24 القادمة سيكون بمثابة اعلان عن واقع قضائي وسياسي جديد في البلاد، ولن يكون نفس الامر اذا نظرنا الى التطورات القادمة بالاستناد الى الاسس التي قام عليها الفقه القضائي التونسي خلال السنوات الـ60 الفارطة والتي استلهمت اسسها من مقولات الفقيه القانوني الفرنسي بلانيول Marcel Planiol في تحديد الحق والتعسف، وخاصة قوله «حيث ينتهي الحق يبدأ التعسف».
القصد هنا لا يتعلق بحسم الجدل المتعلق بالاجراءات ومدى احترامها ولا بشأن الامكانية والقدرة القانونية بل أن الأمر يتجاوز ذلك لرسم الحدود والضوابط للافراد في الفضاءات العامة اما بتجريم الفعل السياسي او التشبيك وربط العلاقات او اي فعل بشري ينظر اليه على انه بديهي ومسلم به قبل هذا الملف والذي يمثل بمفرده أبرز تحد لكامل الدولة التونسية وقد يكون احدى النقاط المفصلية في تاريخها