بل هدفا استراتيجيا من بين أهداف أخرى تضمنتها الخطّة العسكرية التي وضعتها دولة الاحتلال. فالتطهير العرقي والتدميرالشامل لا يكتمل إلاّ بمحو الهوية الفلسطينية وشطب أثر التراث المادي وغير المادي وحرمان من تبقّى من فرص التعلّم، بل الحقّ في الحياة. ولن يتحقّق هذا الهدف إلاّ بمسنادة الدول الحليفة التي قرّرت أغلب المؤسسات الجامعية فيها حذف برامج الدراسات الفلسطينية، والأدب الفلسطيني، ومنعّت النقاش حول 'القضية الفلسطينية' وعرض 'الأفلام الفلسطينية' وألغت عديد المنح وبرامج التدريس فضلا عن طرد عدد من الطلاب الفلسطينيين وحرمانهن من استكمال مسارهم العلميّ.
وترتّب عن انخراط عدد من الجامعات في 'حرب الإبادة' عودة النقاش، مرّة أخرى، حول 'حيادية' الجامعات، واستقلاليتها ومدى انخراطها في السياسة إذ تحوّلت بعض الجامعات إلى أداة في خدمة الدولة ووسيلة لفرض سلطتها، وفضاء يمنع فيه الفكر النقدي وحريّة التعبير، وتفرض فيه سردية 'حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها من غزو الإرهابيين'.
ولا غرو أنّ هذا التوّجه يتطابق مع سياسات دولة الاحتلال التي فرضت تدريس سردية تاريخية محددة تشرعن الاستيطان والإبادة وعاقبت الأساتذة اليهود المناهضين للصهيونية الذين انتقدوا الرواية الرسمية وبيّنوا من خلال الوثائق، أنّ التدخل السافر في برامج التعليم والتلاعب بالروايات التاريخية يناهض وظيفة المؤسسات التعليمية. وهو أمر يوضّح أنّ الجغرافيا السياسية للمعرفة والسلطة غير منفصلة عن الرهانات السياسية.
وعلى الرغم من سياسات المراقبة والعقاب التي انتهجتها عدّة جامعات منحازة لدولة الاحتلال فإنّ 'الحركات الطلابية ' في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها من البلدان استطاعت تنظيم الاحتجاجات وإصدار البيانات والانخراط في مقاومة ما اطلق عليه "إعادة الاستعمار والاصطفاف وراء الامبريالية الأمريكية وخدمة مصالحها''. وقد اتّخذت هذه المقاومة أبعادا مختلفة بعد انضمام مجموعات الأساتذة المدافعين عن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية عادلة وعابرة لجميع القوميات والثقافات وتتنزّل ضمن قضايا التحرّر من الأنظمة التسلطية. ولاشكّ في أنّ هذه المقاومة تعرّي تواطؤ عدد من الجامعات مع الحكومات وتفضح أشكال دعمها لمشروع إبادة الفلسطينيين.
وقد ترتّب عن هذا التصوّر القائم أوّلا: على 'أفعال التذكّر' التي تعزّز الروابط بين مختلف الأجيال وتخترق الصمت المشين، وثانيا: الحكي بما هو بيداغوجيا بثّ الأمل والتعاطف انطلاق برامج الاشتغال على إحياء الذاكرة الجمعية الفلسطينة وعرض الشهادات وقصّ الحكايات وتبادل التجارب ...ولم يتوّقف الأمر عند مناصرة الفلسطينيين بل ارتفعت الأصوات المطالبة بالمساءلة والمحاسبة وبفرض الحوكمة التشاركية داخل المؤسسات الجامعية حتى لا يستأثر الرؤساء بسلطة اتّخاذ القرار، ويورّطوا الجامعات في أعمال تتعارض مع أيطيقا البحث العلمي وبناء المعرفة وإنتاجها.
لقد استطاعت 'حرب الإبادة على غزّة ' أن تبيّن مدى الانحطاط العربي وسقوط المنظومة المعرفية، وأن تفضح فشل مؤسسات عديدة : مجلس الأمن، هيئات الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات التي برزت بعد الحرب العالمية، كما أنّها تمكنت من إرباك المنظومة القانونية والمنظومة القيمية وإبراز "الصمت المخجل" لأغلب المثقفين العرب ومدى تورط مجموعة من المؤسسات الجامعية في إنهاء وجود الفلسطينين ومحو آثارهم.
ويحقّ لنا ضمن هذه التحوّلات أن نتساءل عن وضع وزارة التعليم العالي التي لم تبادر برسم سياسات جديدة تتساوق مع حركات التضامن وبذلك اقتصر ردّ بعض المؤسسات الجامعية على ردود فعل مناسبتية سرعان ما توقفت بينما آثرت مؤسسات أخرى تجاهل ما يحدث والاستمرار في التعامل مع سفارات البلدان الداعمة للاحتلال وعقد برامج الشراكة مع المراكز والمنظمات التابعة للاتحاد الأوروبي وغيرها. وبالإضافة إلى هذين الموقفين ظهر موقف متناقض داخل بعض الجامعات. فهي مؤازرة للقضية الفلسطينية من خلال تنظيم التظاهرات الثقافية ...، و في الوقت نفسه ،هي متناغمة مع سياسات الدول الداعمة لدولة الاحتلال تنتفع من الدعم المالي لإنجاز مشاريعها.
ولا نملك إزاء هذا الوضع إلاّ أن نتساءل: هل أنّ مؤسساتنا الجامعية داخل النقاشات المعرفية التي تطرح في كلّ بلدان العالم لمراجعة مفاهيم نظريات ومصطلحات... أم أنّنا خارج التاريخ ونزعم أنّنا في مرحلة ما بعد الحداثة؟